في غياب المعلومات الدقيقة من الخرطوم، تتنازعني، وأنا على البعد، أحاسيس شتى بين الغبطة (غير المكتملة) لزوال كابوس نظام الإنقاذ الكارثي، من جهة، وبين مشاعر الإشفاق والقلق العميق من تعثر مثار ثورة شباب السودان، من جهة أخرى.
في محاولتي لفهم ما يحدث في الخرطوم من تعثر وتردد ومماحكات، وبروز الأصوات والمواقف العجيبة التي تتراوح بين التخذيل والنكوص والإنكار والتغبيش والصيد في المياه العكرة، تزداد قناعتي بأن أساس ما نشهده هو انعكاس لصراع حقيقي بين أجيال السودانيين، وخاصة بين جيلنا، جيل من هم فوق الستين (ويشمل ذلك أعضاء المجلس العسكري وقادة القوات النظامية، وقادة الخدمة المدنية، وزعماء الأحزاب السياسية، وكبار رجالات القطاع الخاص، والأكاديميين، والقضاء الجالس والقضاء الواقف، و”رجال الدين” وغيرهم) الذين شاركوا، أو استفادوا، أو تفرجوا، أو، على الأقل، “استكانوا” وقبلوا ما لا يُقبل طوال ثلاثة عقود من نظام أجرم في حق البلاد والعباد، وبين جيل من هم دون الأربعين الذين خرجوا بعد أن فاض الكيل، يحاربون من أجل مستقبلهم ومستقبل بلادهم وهم عزل إلا من تصميمهم وجسارتهم وحناجرهم وصدورهم المفتوحة للرصاص، ليس لديهم ما يخسرونه غير قيودهم الذي كبّل بها النظام المجنون طاقاتهم الخلاقة، وآمالهم وطموحاتهم، ورغبتهم القوية في المشاركة في بناء وطن يفتخرون به.
لا شك عندي أن جيل من هم فوق الستين تأثر بالتركة الخبيثة لنظام الجبهة الإسلامية/المؤتمر الوطني/الشعبي، ومن والاهم، ومن استفاد منهم، واستظل بظلهم (حتى بعد أن انكشف المستور وفاحت روائح الفساد الإجرامي المخيف)، الذي خلفته ثلاثة عقود من الخمج والعسف والظلم وما يشبه الجنون. بعضنا فضّل باطن الأرض أو صقيع الهجرة، وبعضنا لزم بيته وفقد العشم في تغيير الحال. وسبحان الله، أتى التغيير من حيث لا يحتسب النظام ومشايعوه، ولا يحتسب الجيل الذي سكت على جرائم النظام. أتى من الشباب الذي وُلد وترعرع وتعلم وشبّ عن الطوق تحت غسيل المخ الذي برع فيه النظام وأنفق عليه من دم الشعب وحليب الأطفال. هذا جيل يعرف تماما ما يريد وما لا يريد. يريد حياة كريمة في وطن معافى، ولايريد العودة للوراء، ولا يريد أن يتحدث باسمه من لا يحس “بوجعته” ومعاناته، ولا يتفهم آماله وأحلامه.
ولعل أبشع ما خلفه النظام السابق من قيم “جديدة” هو انعدام الحياء في زمن سهل فيه التوثيق بالصوت والصورة والفيديو. كيف يتحدث أي شخص في هذه الأيام، والشارع يغلي كالمرجل ولكن بانضباط عجيب وسلمية تامة، عن “الفوضى” و”الإنزلاق” و”الأمن”، وهم قد سكتوا لعقود ثلاثة عن أسوأ أنواع الفوضى والخراب الممنهج الذي تم تحت أبصارهم وأسماعهم، وبمشاركتهم ومباركتهم، أو بدفن رؤوسهم في الرمال؟ ألم يسكت قادة القوات المسلحة والأمن والشرطة (إن لم يشاركوا) والنظام يقتلع اللقمة ومقاعد الدرس والكتب والدواء ليبني الأبراج السامقة والقصور الجمهورية والأندية الفاخرة؟ ألم يسكتوا والنظام يبعثر المال العام على القوات الموازية وكتائب الظل والمجاهدين، ومئات المنظمات الوهمية “الخيرية” و”منظمات المجتمع المدني”، وعلى الوفود والمهرجانات والإحتفالات والبلاد تغرق في جب الفقر؟ أي فوضى وانعدام أمن أكثر من سرقة أموال المودعين في النظام المصرفي، وأموال القروض الأجنبية التي ستظل عبئا على الجيل الذي يحتشد أمام القيادة وفي أنحاء السودان المختلفة؟ أي فوضى أكثر من اختفاء مداخيل البلاد من البترول والذهب؟ أي فوضى يتحدثون عنها ورئيس جمهوريتهم يقبل “قميص ميسي” أمام الكاميرات مع حاملة الهدية وهو يتبسم؟
باختصار، وبصراحة شديدة، جيل من هم فوق الستين (ويشمل المجلس العسكري والكثيرين الذين يملأون الساحة ضجيجا ومماحكة) كان، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، جزءً من المشكلة التي أقعدت البلاد ثلاثة عقود، ولا يُمكن ان يترك له حلها وإصلاح ما تم خرابه لأنه غير راغب أوغير قادر على ذلك. استهدوا بمطالب الشباب المرابط، صاحب الثورة ومُفجرها ووقودها، الله يهديكم!
ولا تجعلونا نفطر على بصلة بعد طول صيام!
رمضان كريم!