هؤلاء
العسكر قد ترعرعوا في كنف نظام بائد مستبعد ومتجبر، وليس سهلا عليهم القطع مع
منظومة تفكيرهم المعتادة: وهي المماطلة كسبا للوقت وتمييعا لمواقف الثوار وايقاظا
للفتن بين مكونات الشعب وقادة حراكه بمنطق فرق تسد الذي طالما استغلته الإنقاذ. إذ
يدرك كل مراقب للمفاوضات الجارية حالياً بين المجلس وقوى الحرية والتغيير أن الوقت
يمضي دون أن يحرز الثوار في ميادين الاعتصام في كل أرجاء البلد أي نصر حقيقي
وملموس. بينما المجلس العسكري هو الذي يحرز النصر بعد النصر من خلال اكتسابه لشرعية
الأمر الواقع والممارسة الفعلية للحكم. ففي التنوير الصحفي بالأمس، وفي معرض ردهم على
مقترح هياكل الحكم في الفترة الانتقالية الذي قدمته قوى الحرية كانوا أكثر صراحة برفضهم
المساس بالهيمنة العسكرية الكاملة على مجلس السيادة.
وذهبوا
شوطاً إضافياً من خلال موقفين، تمثل الأول في رفضهم أيضاً لمقترح الوساطة بتشكيل
مجلس ثالث للأمن والدفاع، قائلين إنه مجلس موجود أصلاً في كل البلدان بما فيها
السودان في العهد البائد. أي أن الاقتراح ما هو إلاّ تحصيل حاصل في رأيهم. وتمثل
الموقف الثاني في دعوتهم اليوم لإجتماع موسع بغرض التشاور مع بعض الكيانات الحزبية
المنبثقة من جماعة الإخوان المسلمين فضلاً عن أحزاب الفكة التي كانت قد تكالبت على
قصعة الإنقاذ في حوارها المتهافت. هذا التشاور يدل دلالة أكيدة على رغبة المجلس
العسكري بالمناورة السياسية والقيام بمزيد من التسويف. وهي عملية تشبه التهديد
المبطن الموجه لقوى الحرية والتغيير لتقوم بخفض سقف مطالبها على صعيدي تشكيلة مجلس
السيادة ومجلس الوزراء ودعواتها لتصفية النظام البائد وعقد محاكمات عادلة لرموزه.
في الوقت
نفسه، فإن الشارع، ورغم شدة الحر وقسوة الظروف الاقتصادية، يبدو أكثر تصميماً على
تحقيق النصر الكامل أو مواصلة الاعتصام إلى ما لانهاية. وهذا الموقف الشعبي الجسور
يحتم على قوى الحرية والتغيير تكثيف ضغطها على المجلس العسكري بشكل أكثر ثورية عن
ذي قبل. فكيف ذلك؟
في
البداية ينبغي العمل فورا على حشد شباب إضافي للاعتصام أمام القصر الجمهوري بهدف شل
حركة المجلس العسكري، الذي اتخذ القصر ثكنة عسكرية ومقرا رئاسيا لمقابلة السفراء
والوفود ومزاولة شؤون السيادة دون شرعية ودون رضا شعبي.
على
أن يستمر اعتصام القيادة في الوقت نفسه، ليصبح المنصبة الرئيسة لكل الاعتصامات.
ثانيا،
بدء الترتيبات اللازمة للعصيان المدني الكامل وتحديد موعد مبدئي له. إن قوى الحرية
والتغيير تملك الآن قدرة غير مسبوقة على إنجاح العصيان بما تتمتع به من مرونة
الحركة وسرعة التنسيق مع لجانها في مدن السودان كافة من خلال وسائط التواصل الاجتماعي.
ولولا هذه المرونة والسرعة لما أنجز هذا الحراك أصلا، ذلك أن الإنقاذ كانت من
الشراسة الأمنية بمكان، إذ لم تكن تجدي معها الحلول التقليدية المتبعة من جانب
ديناصورات المعارضة.
ثالثا،
الإعلان من أرض الاعتصام عن تشكيل حكومة مدنية، وإجراء اتصالات فورية بالدول
الغريبة والأفريقية للحصول على اعتراف منها. إن هذه الخطوة سوف تثبت للعالم جاهزية
المدنيين لأخذ زمام المبادرة وتسيير الأمور في البلد. في هذا الصدد، يجب أن تبعث
رسالة طمأنة واضحة للأحلاف الإقليمية حتى لا تلقي بظلال شكها على المشهد السياسي
الداخلي.
رابعا،
الإعلان عن برنامج إسعافي محدود، على أن يكون قابلاً للتوسيع متى استقرت الأوضاع
وأخذت الحكومة بخيوط الحكم كاملة، ومتى تراجع جيشان فلول الإنقاذ. هذا البرنامج سوف
ينصب تركيزه على حل مشكلة تفاقم الدين الخارجي للبلد وبذل مساعى جادة للحصول على قروض
أجنبية عاجلة تستهدف إعادة إحياء المرافق والمشاريع التي أماتتها الإنقاذ ظلماً
وجوراً.
ربما
تقولون إن هذه إلاّ خطوات انتحارية؟ أقول لكم، نعم، وهل كانت الثورة يوما استرخاء
على أريكة مخملية؟
لكل
ذلك، يلزم الشباب أن يستعينوا بحكمة السودانيين جميعاً وفي المجالات كافة، وسواء
كانوا داخل السودان أو خارجه.
إن الإخوان تتعذر هزيمتهم بدون تحالف واسع عريض للشارع السوداني. ومن شأن العصيان أن يرسخ هذا التحالف الواسع وعرض ويمهد لفترة انتقالية سلسة نوعاً ما.
yassin@consultant.com