ربما يلاحظ القارئ المتابع أنني استخدمت هذا العنوان من قبل، وسيكون على صواب، فقد كان هذا عنوان مقالة في سلسلة طويلة من التأملات حول الحراك الإسلامي الحديث، نشرت في نهايات عام 2014 وبدايات 2015. وكان الموضوع عندها، كما هو اليوم، التفريق بين دور الدين والحياة العامة، لا مهرب منه ما دام في الحياة دين ومتدينون، واستغلال الدين لأغراضٍ لا علاقة لها به، فهناك فرق بين أن يأمر شخص بالمعروف وينهى عن المنكر اتباعاً لوازع ديني وأن يتظاهر بذلك لهدف آخر، فذاك من شر أنواع الكذب على الله.
وفيما يتعلق بالحالة السودانية، فإن محاولات رفع راية الدين في إطار الصراع الدائر حول السلطة حالياً تواجه مشكلة صدقية كبيرة، وقد تتحول إلى إساءةٍ جديدةٍ للدين وقيمه. ولعلها مفارقة أن يتزامن هذا ما يحدث في بلاد أخرى، خرج فيها بعض دعاة الإسلام على الناس من سجنه بمقولاتٍ يؤيد فيها الظلمة والظالمين، بحجة أن منهجهم المعادي للدين، وكل قيم الإنسانية، هو الدين الصحيح الذي يجب الجهاد في سبيله، فالواضح أن هذا الموقف يدمر سمعة وشخصية من يتخذه، من دون أن ينفع من جنّده للدفاع عنه. بالقدر نفسه، فإن محاولة تعبئة الناس وتحشيدهم باسم الدفاع عن الدين في السودان، بحجة أنه يواجه خطراً من التغيير الجاري والمنتظر في البلاد، تسيء إلى الدين، ولن تنفع من ظنّ أنها تخدمه.
ولسنا هنا بصدد الزعم أن من حقنا الحجر على من يصرح بما شاء من مخاوف حقيقية، أو مفترضة، على قيم بعينها، أو من يطرح نفسه ناطقاً باسم الدين، منافحاً عنه، فهذا أمرٌ لا ندّعيه. ولا يعني هذا أنه ليس لدينا تحفظاتٍ على مقولات بعض من يتحدّثون باسم الحراك، ما يصرحون به من مخططاتٍ مستقبلية، ولكن هذه مسألة أخرى. إنما موضوعنا اليوم يتعلق بمشروعية رفع راية الدين في صراع سياسي قائم، وفي غير مقامها ومناطها.
تزيد المسألة تعقيداً عندما يتعلق الأمر بالجهات التي تطرح هذه الفرضية، والخلط بينها وبين الدفاع عن بعض سياسات النظام المتراجع ومكاسبه، بل عن بعض رموزه. وهذا طريقٌ سلك من قبل، وكان مسؤولاً عن الأزمة الحالية التي يواجهها الخطاب الإسلامي، فقد اعتادت أصواتٌ عديدة، بعضها من بين الأصوات التي عادت إلى الارتفاع أخيراً، على الدفاع عن كل سياسةٍ من سياسات النظام الإنقاذي، باعتبارها تعبيراً عن صحيح الدين، ووصف كل معارضة له حرباً على الدين، و”عمالة” لأعداء الوطن.
ولا حاجة هنا لإعادة ما كرّرناه سابقاً من أن هذا الخطاب قد أساء إلى الدين بأكثر من المخاطر المزعومة عليه، بسبب استخدامه لتبرير أشنع الإساءات إلى الدين الإسلامي وتعاليمه وقيمه، فليس أخطر على الدين من استخدامه غطاءً لفسادٍ عظيم، ولفظائع لا يرضاها الله ورسوله، ولأغراضٍ الدين منها براء. ثانياً، تبدو الانتهازية في توقيت هذا الخطاب، ولغته والجهات الموجه ضدها. هذا إضافة إلى الفجاجة، حتى لا نقول غير ذلك، التي تميّز بها هذا الخطاب في تجلياته المختلفة، فهو خطابٌ يفتقد الذكاء كما يفتقد الإقناع بصدقه وصدقيته، ولا يمكن أن يجوز على من لديه مثقال ذرّة من عقل. كذلك تواجه الأصوات التي طفقت تقدّم هذا الخطاب إشكالية مصداقية كبيرة، لأنها فشلت في الوقوف ضد نفاق النظام الآيل إلى الزوال وفساده.
ولنا عظة وعبرة في الفشل المزدوج لهذا الخطاب في دعم ذاك النظام وإبقائه، وكذلك في تجميل صورته وجعلها مقبولة، بدليل ما يفيض به الشارع حاليا من كراهيةٍ وبغضاء تجاه كل شيء، وكل شخصٍ له أوهى علاقة بالنظام السابق. وقد كان من سيئات نظام الإنقاذ أنه شوّه سمعة الدين بصورةٍ لم ينجح فيها أعدى أعدائه، بحيث أصبح رفع شعار الدين في البلاد يثير الغضب والأحقاد، من كثرة ما استغلّ في الدفاع عن منكراتٍ لا يرضاها الله ولا رسوله. وهذا من أسوأ أنواع الصد عن سبيل الله. وقد ورد في سورة النحل وعيدٌ شديدٌ ضد خرق العهود، باعتباره صدّاً عن سبيل الله، في تذكرةٍ بأن كل سلوك غير سوي من شخص يدّعي الإسلام (ويدخل في ذلك إجرام الوالغين في خطيئة الإرهاب) ينعكس سلباً على صورة الدين، وبالتالي يصدّ الناس عنه. وينطبق هذا الوعيد على من يريد استغلال الدين ليدعم الطغيان، ويدافع عن الفساد والمفسدين.
الطريق لتنزيه الدين عن ما وقع من استغلال وتشويه يبدأ بإنشاء نظام ديمقراطي سليم، كما أوضح كاتب هذه السطور بتفصيل طويل في كتابه “من يحتاج الدولة الإسلامية؟” الصادر عام 1991. فلا يمكن أن يكون هناك اجتهاد صحيح في ظل نظامٍ يقمع الناس، ويحجر على حرية الرأي، كما لا يمكن الحديث عن إجماع في غياب حرية الحوار والتشاور والتعبير عن القناعات بدون خوفٍ أو إكراه. وهذا تحديداً معنى قوله تعالى: “لا إكراه في الدين”. وبالمنطق نفسه، فإنه لا دين مع الإكراه، لأن من يقبل الانصياع لتعاليم الدين تحت الإكراه أو الترغيب، لن يقبل منه ذلك، ولا يعتبر مسلكه ديناً.
عليه، نحذر من يريدون إقحام الدين في معركة غير معركته بالكفّ عن تكرار الإساءات إلى دين الله والكذب عليه، فهذه أمور لها عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة. والأوْلى بمن تورّط في الإساءة إلى الدين سابقاً أن يكفّر عن سيئاته بالتوبة والاستغفار، والاعتراف بالذنب تجاه الله سبحانه وتعالى أولاً، ثم عباده ثانياً. وهذا شهر رمضان الذي تغفر فيه الذنوب جميعاً، فلا يفوتنا اقتناص موسمه، بالكفّ عن الإساءة إلى الدين، وإقحامه فيما هو بعيد منه.