من
البديهيات في اي نشاط بشرى أن تقوم عليه إدارة، ويكون الأمر أكثر الحاحاً عندما تتعدد
المهام والمجالات والتخصصات التي يقوم عليها ذلك النشاط، وخاصة إذا كثر عدد
العاملين المتنفذين في ذلك النشاط. عنده لابد من إدارة تضبط الاداء وتنسق الأدوار بين
المكونات الداخلية وتدوزن الإيقاع حتى لا يضطرب ويخرج نشازا. إدارة تلفت انتباه
المقصر وتحفز المبدع من أجل أن يرتقي الاداء العام وتقل كلفة العمل وتكون البيئة
أكثر موائمة وأقل ارتباكا وأكثر تحفيزا للعاملين على التفاني مما سيؤدي حتما الي زيادة
الانتاج..
هذا
من ناحية الأعمال والانشطة المجردة أما في حالات الثورات فان التجارب الإنسانية الثورية
تؤكد أن الثورات هي عبارة عن طاقات بشرية جبارة ومندفعة بأهداف لإحداث التغيير في
واقع ما، وتبدأ عادة بأهداف بسقوف عالية جدا تتناسب مع درجة عنفوان الثورة والتي تتشكل
بناء على درجات الظلم وحجم الاثمان المبذولة في طريق التغيير، بالإضافة إلى درجات التجانس
في الرؤى والاتفاق في الأهداف النهائية بين مكونات القوى الفعالة في قيادة الثورة،
وفي توقيتات إنجاز تلك الأهداف بعد نجاح الثورة الي أهداف تفصيلية عاجلة التحقيق
وأخرى متوسطة وثالثة مطلوب ان تبقى مستمرة.
وطالما
أن الثورة في أساسها وحقيقتها هي طاقة حركية، فإنها حسب قانون الفيزياء محكومة بعدة
عوامل يمكن تفصيلها في: السرعة وقوة الاندفاع (وتقابلها سقوف الثورة ومشروعها)، والكتلة
(وتقابلها الحجم البشري المشارك في الثورة منسوبا للعدد الكلى للشعب)، والزمن ثم درجة
الاحتكاك (وتمثلها البيئة التي تستهدف الثورة تغييرها). هذا بالإضافة إلى عامل آخر
حاسم وهو عامل الادارة او العقل الموجه للعمل (ويقابله في حالة الثورات القيادة
قيادة الفعل الثوري). وكل واحد من هذه العوامل له تأثير جبار على الثورة وعلى مالاتها
ونتائجها النهائية.
نأتي
للثورة السودانية المباركة، وهي ثورة عظيمة وأجزم أنها من الثورات النادرة من حيث بناءها
ومنهجها وحجم التضحيات التي بذلت فيها وفي شكل الانتصار الذي حققته على نظام هو من
أشرس الأنظمة الأوتوقراطية، نظام تمكن من الدولة حتى ذابت الدولة كلها فيه. لقد قدمت
الثورة السودانية منذ انطلاقتها الي مرحلة إزالة رأس النظام، نموذجا جديدا ومتفردا
في الثورات عبر التاريخ، يستحق أن يسجل كبراءة اختراع باسم الشعب السوداني، ويستحق
ان يضمن في مناهج التعليم السودانية يدرس للأجيال، ليملاهم بالافتخار والروح
الوطنية، ويشعرهم بالتميز بين الأمم، ويعلي في نفوسهم معاني الوطنية، وقيم
المساواة والعدل ووحدة المصير الوطني بين ابناء الوطن الواحد، وأهمية البذل من أجل
الأوطان والإنسانية جمعاء.
برغم
هذا البهاء الذي تميزت به الثورة وجمال القيم التي ترفعها، الا أن طريقها مازالت تكتنفه
العثرات ونذر الاختلافات الشيء الذي يمكن أن يهدد بعدم تحقيق الأهداف والشعارات التي وحدت الشارع
واسترخصت التضحيات حتى وصلت الثورة الي هذه المرحلة من درجات النجاح. ومن أهم تلك
المهددات غياب الادارة المركزية والمرجعية السياسية الموحدة لمسيرة الثورة.
كان
واردا ومتوقعا في حالة الثورة السودانية، ان يحدث تعثر مؤقت في التوافق على إدارة
المشهد، في ظل الانهيار المفاجئ للمنظومة الظالمة الحاكمة بعد انهيار منظومتها
الامنية وتمردها السريع على تعليمات رأس النظام تحت سطوة الشارع الذي كان يتوقع حربا
بتفاصيل أكثر شراسة ولمدة أطول. لكن غير المتوقع ان يستمر هذا الارتباك في المشهد
لمدة أطول مما وصل اليه، وان تتباعد الرؤى الي المشهد بين مكونات قوي الحرية
والتغيير. لا يوجد مبرر لعدم الاتفاق فيما بين قوي إعلان الحرية والتغيير اللهم
الا سيطرة الاجندة الخاصة لبعض القوى التي ربما ادت لحدوث اصطفافا غير حميد.
ان
استمرار هذا الارتباك في المشهد ينذر بالفوضى ويجعل المجلس العسكري اكثر تعنتا في تلبية
إرادة التغيير الثورى. وتباين الرؤى فيما بين قوي الحرية والتغيير سيربك المشهد
أكثر وربما الي تفرق الجماهير وانقسامها في ظل استمرار الاعتصامات وتعطل دولاب
العمل والضوائق المعيشة الراهنة، وهو ارتباك ينذر بدخول كل المشهد الي مالات غير
حميدة اذا لم يتم تداركه بشكل عاجل ومسئول.
من
أهم واجبات المرحلة الراهنة ان تعمل قوي إعلان الحرية والتغيير وبشكل عاجل جدا للوصول
لصيغة توافق على تشكيل قيادة للثورة تتكون من قادة الفصائل المكونة لهذا التحالف
الواسع، كما يجب أن تتوافق هذه القوى على لائحة لإدارة الاجتماعات ولائحة أخرى
لاتخاذ القرارات، ويمكن ان يتم ترأس اجتماعاتها بشكل دوري حسب الحروف الأبجدية لقادة
هذه القوى المكونة لهذا التحالف العريض مثلا، وليس شرطا ان يكون لها رئيس واحد، لأنها
أصلا ليس جسما حكوميا تنفيذيا وانما حلفا سياسيا تنطلق ادواره من الاجتماعات وتتحدد
في استصدار التوجيهات العامة وإجازة القرارات السياسية غير التنفيذية المباشرة. ويمكن
لهذا التحالف السياسي في حال تنظيمه ان يشكل دور الراعي والمستشار للدولة وحكومتها،
كونه لا يمثل اطارا دستوريا، ويمكنه من متابعة الاداء العام للدولة ومراقبة
المهددات العامة قبل وقوعها لتجنبها، ويمكنه الإشارة الي اهم اسباب نجاح الحكم حسب
الظروف الداخلية والواقع السياسي الدولي. ان من شأن هذا المجلس ان يسهل مهمة
الحكومة الانتقالية ويوفر لها السند السياسي ويوحد حولها الشارع وخاصة فيما بين
قواه السياسية ويفرغ طواقمها للعمل التنفيذي المباشر، ويعصم قواها السياسية من
الانزلاق في الخلاف المهلك. وفي حقيقة الأمر فان هذا الجسم دائما موجود وهو الجسم
المدبر للأمور من خلف كل الحكومات، فبدل ان يكون متروكا للظروف واحتمال الاصطفافات
التي يمكن تنتهي للمشاكسات، من الأفضل أن يتم تنظيمه من خلال جسم معروف ومعرف خاصة
وان مدة الانتقال ستمتد لوقت أطول من المعهود والمعتاد عادة في داخل السودان
وخارجه..
من
ناحية أخرى فان حكومة الانتقال بعد أن اتفق بين اغلب قوي الثورة على تشكيلها من عناصر
مشهود لها بالكفاءة فإنها بالضرورة ليس عناصر سياسية وهو ما يتطلب وجود جسما
سياسيا يقوم مقام الحارس على مصلحة النظام آخذين في الاعتبار حجم التركة العظيمة
التي تركها النظام المندحر وطول مدة الانتقال والتباينات الواسعة بين مكونات
المشهد السياسي وأهمية استمرار وحدة الأهداف ومتانة الاتفاق بين القوي السياسية
الثورية من أجل توفير الاستقرار السياسي اللازم والمهم جدا للحكومة حتى تتمكن من
أجاز المهام الموكل لها بكل الكفاءة ومن دون مشاكسات يمكن ان تعكر الأجواء وتضايق الوزراء
او تفجر الشاعر من حول الحكومة.