من المهم أن يعرف العقلاء أن أقصى تقدير لأي قول يقوله عاقل ؛ لا سبيل إليه إلا بالإخلاص في محاولة فهمه من واقع دلالات ألفاظه ومقاصد معانيه عبر الجمل والعبارات المبذولة فيه وصولاً إلى ما وراء السطور. وبعيداً عن النوايا المسبقة . ففي كل قول خطاب يمكن فهمه وتحليله وإعادة تركيبه بصورة أقرب إلى الموضوعية ، من خلال ممارسة آليات تفكير نقدي رصين وتحليل فحوى الخطاب بصورة معرفية معتبرة ، بعيداً عن نوايانا وخيالاتنا ، طالما كنا بشراً ولا نعلم ما في الصدور.
هذه مقدمة لابد منها في سياق محاولة فهم خطاب رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان وبيانه الذي القاه يوم أمس 15 مايو 2019م.
في مجمل الخطاب ، يمكن القول أن غالبية هذا البيان حوى نقاطاً إيجابية واضحة في دلالات كلام البرهان ؛ حيث تدل مؤشراته بوضوح على التزام جانب الثورة.
فقط علينا أن ندرك معنى ما جاء في البيان بعقول مفتوحة ونوايا سليمة.
1 ــ ترحَّم البرهان أولاً على الشهداء وليؤكد ما يعنيه استدرك (حتى لا يذهب البال إلى شهداء آخرين) بأنهم شهداء الثورة والوطن ، ثم ترحم تالياً على شهداء القوات المسلحة. وفي هذا الكلام وضوح كامل.
2 ـ أكد البيان على انتماء القوات المسلحة للشعب السوداني وانحيازها للثورة ودورها في اسناد الثورة العظيمة وتأمين انتصارها من أجل حقن الدماء وصولاً إلى انتخابات حرة نزيهة. وهذا هناك منه ما تم تحقيقه ولا ينكره أحد.
3 ـ ذكر البيان أولاً تواصل المجلس مع قوى إعلان الحرية والتغيير ، ثم تحدث عن تشاوره مع بقية قوى الشعب السوداني ماعدا المؤتمر الوطني ، ثم تحدث أخيراً عن الاتفاق الذي تم بين المجلس وقوى الحرية والتغيير وفي هذا إقرار من المجلس بالانحياز للشراكة مع قوى إعلان الحرية والتغيير.
4 ـ تحدث البيان بإيجابية عن ما تم من حوار بين المجلس وقوى الحرية والتغيير وعن شراكة وصفها بأنها شراكة حقيقية يسودها التفاؤل والمنطق والتفاكر والعقلانية.
ثم أقر البيان بنود الاتفاق الذي تم بين المجلس وقوى الحرية والتغيير والاحتفال بذلك.
ثم حذر البيان من التصعيد الغير المبرر من القوات المسلحة والدعم السريع . ضع خط تحت كلمة (الغير مبرر) هذا يعني أن هناك تصعيد ونقد مبرر تقبله القوات المسلحة.
إلى جانب حديثه عن قفل الطرقات ومسار القطارات وهذه أمور يمكن ترتيبها.
5 تحدث البيان عن عناصر مسلحة تسللت إلى داخل الاعتصام (لاحظ أنه لم يتهم حركة مسلحة من حركات دارفور مثلاً ولم يتهم الثوار ولا الحركة الشعبية) وبكل تأكيد إذا ما استصحبنا واقع السيولة الذي يمر به الوضع الأمني فإن هناك جهات عديدة وعلى رأسها بقايا نظام الكيزان لها مصلحة في توقيت ذلك التخريب والقتل نظراً لإحساسها بجدية الاتفاق الذي وصل إليه الطرفان : المجلس وقوى الحرية والتغيير عبر روح إيجابية متفائلة
6 ــ حديث البرهان في بيانه عن انتفاء سلمية الثورة بتلك الفوضى التي أحدثتها العناصر المسلحة المتسللة ، كلام سلبي جداً في حق الثوار واتهام غير مبرر وينفي عن الثورة أهم خاصية لها بدون وجه حق . فهذه الثورة طبعاً ثورة سلمية نادرة في سلميتها ، لكن إذا تحقق أن هناك عناصر مسلحة تسللت في ميدان الاعتصام فهنا ينبغي على الثوار الحذر وذلك بتحصين الموقع الأساسي للاعتصام في القيادة العامة وهذا ماطلبه البيان منهم.
7 ــ البيان لم ينسب التصعيد صراحةً إلى قوى إعلان الحرية والتغيير وإنما قال ” الأمور تطورت ” مع أنه أشار إلى جدول تصعيد تجمع المهنيين واصفاً إياه كأحد مكونات إعلان الحرية والتغيير دون ذكر اسم تجمع المهنيين.
8 ـ كلام البرهان عن قوات الدعم السريع لا ينبغي أن يحمل على غير مقتضى الحكمة فهذه القوات اليوم قوامها 40 الف جندي ، وهي تمثل اليوم سلطة أمر واقع ، وأي تعامل معها خارج العلاقة مع الجيش سيؤدي إلى كوارث ، ولهذا ينبغي فهم بيان البرهان وكلامه عن قوات الدعم السريع في هذا السياق ، لا في الأحكام الانطباعية لبعض الثوار.
9 ــ البيان علق المفاوضات لمدة 3 أيام وبرر ذلك بضرورة تهيئة المناخ الملائم لاستئنافها مرة أخرى وإنهاء الاتفاق. (تأمل في كلمة : انهاء الاتفاق التي تعني التمسك بإنهاء الاتفاق مع قوى إعلان الحرية والتغيير)
10 ـ ذكر البرهان كلمة ثورة في البيان 12 مرة وهذا دليل على أن التفكير بالثورة من ناحية تحليل لغة الخطاب. فيما ذكر القوات المسلحة 6 مرات. لكن في كل موضع ذكر فيه البيان القوات المسلحة قرنه بدورها في حماية الشعب والانحياز إلى جانب الثورة وهذا يعطي انطباعاً إيجابياً في لغة الخطاب.
هذا مجمل ما جاء في بيان رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان . وفي تقديرنا أن ثلاثة أيام ، لا تعني تسويفاً في تسليم السلطة ، ويمكن انتظارها ثم تجديد التفاوض وصولاً إلى الاتفاق النهائي.
لحسن حظنا أن هذه الثورة السودانية جاءت بعد سنوات من بداية الربيع العربي ويعرف السودانيون أن أغلب تجارب البلدان التي حدث فيها الربيع العربي كانت تجارب فاشلة وكان السبب الرئيسي في ذلك هو الجيش. ولهذا حرصاً على إنجاح هذه الثورة وتغليباُ لصوت الحكمة والعقل والتفكير في المآلات والعواقب ، ينبغي أن تكون هناك استجابة من قبل قوى الحرية والتغيير وتقبلاً ايجابياً يتميز بالحكمة وتقدير الموقف بما يؤدي إلى التوافق وإشاعة الروح الإيجابية وتغليب التفاؤل حتى يتم الاتفاق الكامل.
خطورة نتائج اجتماع ” تيار نصرة الشريعة ” و”دولة القانون ” في قاعة الصداقة
وفي تقديري أن الخطورة يوم أمس لم تكن في بيان الفريق البرهان ، بل كانت كل الخطورة في مؤتمر ما يعرف بــ”تيار نصرة الشريعة” ، و “دولة القانون” الذي يراسه الداعشي محمد الجزولي ، ولقد تزامن اجتماع هذا التيار في قاعة الصداقة مع بيان رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان . حيث فيه المدعو عبد الحي يوسف كلاماً خطيراً خطيراً جداً ، حين اتهم المجلس العسكري بأنه خان الله وخان أمانته ، وحين تحدث بأن كل الخيارات مفتوحة وحين وصف أن مهمتهم في وجه عدوهم الماكر (ويقصد قوى إعلان الحرية والتغيير) هو واجب الوقت وفريضة الوقت . وتكمن خطورة كلام عبد الحي في قوله (كل الخيارات مفتوحة في كل شيء) .. للأسف هذا هو التصعيد الخطير والذي سيكون له ما بعده ، نسال الله السلامة.