في أبريل 2019 ، أطاحت الثورة السودانية بحكم نظام استبدادي ظل يحكم السودان قرابة الثلاثة عقود. بدأت الثورة بمطالب وحقوق مشروعة، جسدتها شعارات الثوار” حرية.. سلام عدالة”، واطلقت وسائل التواصل الاجتماعي دعوات إلى جميع السودانيين بالتوجه إلى الشوارع في تظاهرات سلمية لأسماع أصواتهم.
سرعان ما انتشرت المظاهرات في كل مكان في السودان يقودها الشباب السودانيون الذين طالبوا بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فزع النظام هذه المرة، وحاولت أجهزته الأمنية، قمع الثورة عبر ممارسات القتل والاعتقال والتعذيب والتخوين، ولكنها كانت بائسة أمام شجاعة الثوار.. فالإرادة والعزيمة تنتصران دائماً.. والحق يعلو على الباطل أبداً.. انتصرت ثورة السودان ممهورة بدماء شبابها، تحت شعار ” تسقط بس”.
لقد كان السودان أول بلد افريقي يحصل علي الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، ومن المفارقات كان أول دولة في افريقيا تدخل في اتون أطول حرب أهلية في القارة. حصدت هذه الحرب مئات الآلاف من أرواح المواطنين في الجانبين الجنوبي والشمالي،
وكانت المحصلة الأخيرة انفصال السودان إلى بلدين، وتمزيق شعب واحد إلى شعبين – ما زالت تراوده أحلام الوحدة.
في غرب السودان، شكل إقليم دارفور، تحدياً آخر للسودانيين، فقد كان الإقليم نقطة توتر وصراع دائم على مدي عقود. ومثلما فعل في الجنوب، لم يدخر النظام السابق جهداً في تأجيج الصراع في دارفور، فقد لعب نظام الحكم في السودان، بالعوامل الاجتماعية والثقافية – وتحديداً العامل القبلي ـ واستخدمها أدوات لأجندات الحروب وفرض السيطرة والاستئثار بالثروة.
كانت النتيجة، تحول الصراع إلى أزمة إنسانية دولية، أدت إلى قتل وتشريد وتهجير مئات الآلاف من أبناء السودان.
لقد كانت طبيعة تكُون السودان، أنه دولة متعددة الأعراق والمعتقدات والثقافات والقبليات، فهناك أعداد كبيرة من المجموعات العرقية ذات سمات متباينة ومتجانسة في ذات الوقت ” المعتقد أو اللغة أو القيم أو التقاليد” وكان المكون الرئيسي لهذا التباين والتجانس، هو الهوية السودانية ” السودانوية”، وهي خليط بين عروبة اللسان والأصل الأفريقي “العروبة والأفريقانية”.
ثقافياً وأكاديميا، كان شعار” الوحدة في التنوع”، إرثاً رئيسياً حاضراً في التعليم السوداني ” في المدارس والجامعات” وفي مؤسسات الفكر والأكاديميا، ومع ذلك أخفقت المؤسسة السياسية في تطبيق هذا الشعار المتميز كاداه وممارسه ناجعه على أرض الواقع.
عوضاً عن ذلك، قام النظام السابق، بتوظيف النعرات القبلية في تحقيق مصالحه الضيقة، ومضى يمارس الظلم والغطرسة، ويرقص على أشلاء الوطن، ويمارس التهميش والإقصاء، فأصبح شعار “الوحدة في التنوع” حبرا علي ورق!
لعبت القبلية دورا هاما في السياسة وحياة الإنسان السوداني، فقد اتسم نظام الحكم بالمركزية وانشغل بالسيطرة وتكريس السلطة في العاصمة “الخرطوم”، على حساب تهميش باقي أقاليم ومناطق السودان الكبير في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وبرزت مشكلات المركز والهامش، والعدالة في المشاركة السياسية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية.
قام النظام السابق، بشرذمة شعب السودان، وسن سياسات “التمكين” وهي سياسات اقصائية، تشبه في مكنونها سياسات الفصل العنصري ” الابارتيد” في جنوب أفريقيا، بحيث أصبح الحزب الحاكم في السودان، هو الحزب الذي يحتكر السلطة والثروة والمجتمع والخدمة المدنية، وأصحبت قاعدة الولاء والعيش الكريم تقوم على أساس الانتماء لهذا الحزب.
منذ انقلابه، استهدف النظام السابق فئة الشباب، فعندما كنا طلاباً في جامعة الخرطوم ( 1990-1996)، تم الزج بنا في معسكرات الدفاع الشعبي، حيث فرض ذلك شرطاً للالتحاق بالجامعة. ولم يكن الهدف من هذه المعسكرات تعزيز الروح الوطنية، وإنما كان الهدف هو أدلجة واستقطاب أفكار الشباب، لصالح فكر فئوي واحد هو فكر الجبهة القومية الإسلامية ( المؤتمر الوطني فيما بعد).
في كل مرة كانت جامعة الخرطوم مسرحاً للمواجهة ضد الظلم والقهر والاستبداد، وظلت صرحاً يقدم الشهداء يبذل طلابها ويناضلون، وكانوا ينتصرون ( كان تنظيم الطلاب المحايدين ـ الذي انتمينا إليه ـ أول تنظيم طلابي يفوز باتحاد طلاب جامعة الخرطوم في عهد النظام السابق (دورة 90-91)، وهو الأمر الذي دفع عناصر النظام الحاكم إلى تزوير انتخابات الدورة الثانية ( 1993) بعد تجميد الاتحاد.
واليوم ، بالقرب من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة ، حيث لا يزال الشباب السوداني مشتعلا بالثورة، نري صوره جديده للسودان، يرسمها الشباب السوداني بألوان متعددة : لوحة واعدة تمثل شعباً واحداً، يحلم بدولة تقوم على المواطنة وتمثل جميع السودانيين في كافة أنحاء البلاد.
أطلق الشباب السوداني ثورة ” ثقافية” مجددة لمفهوم هوية هذا الشعب العريق، وأعادت الى الاذهان شعار ” الوحدة في التنوع” وجسدته روحاً ووجداناً في الحياة السودانية.
في كل ركن ومنصة داخل موقع الاعتصام، وقف الشباب السوداني، قلبا ويداً واحدة، في مشهد من التلاقح الوطني، جاؤا قوافل من كل حدب وصوب، يعانقون السودان، وينتظمون في مهرجان ثوري ثقافي، أضاف نكهة وطنية خاصة لهذا الاعتصام الفريد. لقد كان مشهد مسيرة قطار الثورة، مشهداً مهيباً، يدفع للتأمل والافتخار بهؤلاء الشباب.
بثت هذه المشاهد التاريخية المفعمة بالوعي، روحاً جديدة وخلاقة، في فضاءات النفس السودانية، التي شوهها النظام السابق، ومنحت شعب السودان الأمل والوعد بسودان جديد موحد. أطلق الجيل الجديد من الشباب السوداني، “نفيراً وطنياً” لبناء السودان، على أسس المواطنة والمساوة والعدالة وسيادة ودولة القانون والممارسة الديمقراطية.
لم تنتهي الثورة السودانية بعد، فبينما يستنشق أهل السودان نسيم الحرية، ويتذوقون طعم الانتصار، تحيط بطريق الثورة العديد من التربصات والتحديات التي تسعى لعرقلة مسير الثوار نحو تحقيق حلم الديمقراطية. وعلى المستوى الخارجي، يجذب وضع السودان ” الجيوسياسي” العديد من اللاعبيين السياسيين ـ أعداء الثورات والديمقراطية، وأصحاب الأجندات الخفية.
” الثورة هي نضال بين الحاضر والمستقبل من أجل البقاء ” لذلك أبعث برسالة إلى اخواني واخواتي في الاعتصام، ” ابقوا أعينكم مفتوحة وكونوا مستعدين”.
أخيراً، نسأل الله أن يتقبل شهداء الوطن من الشباب الذين دفعوا أرواحهم ثمناً لإعلاء قيم ” الحرية والسلام والعدالة”. نسأل الله أن يحفظ أهل السودان، وأن ينهض وطناً حراً شامخاً عزيزاً كما هو انسان السودان.
- باحث سياسي- خريج علوم سياسية جامعة الخرطوم- ماجستير جامعة كارديف