“إلى
روح مولانا نجوى فريد وإلى مولانا رباب أبو قصيصة لذكرى أحاديث عن المرأة القاضية
بحضور المرحوم مولانا شيخ الجزولي”.
قلت أمس إن الشيخ عبد الحي يوسف أجنبي على تقاليد
الإسلام والسياسة في السودان التي كان مدارها، وما يزال، توطين الحداثة في
إسلامنا. وسبب غربته هذه إنه ممن ترعرع في شبكة الدعاة الوهابية التي طابقت بين
سدانتها للحرم الشريف وصواب إسلامها الوهابي على ما عداها. فالداعية بإطلاق أجنبي
عن مجتمعه حتى لو كان منه لأنه مبعوث لتغيير، أو تصويب، دين أهله أو غير أهله
الخطأ بالضرورة من محض نصوص. فالنص عنده لا يتنزل على مسلمين في كنف مجتمع ومعاد
بل قلم تصحيح لهم كحالة معاد خالصة. وسمعت من هتف في لمُلام نصرة الشريعة أمس
“الشريعة ولا القوت”.
كانت مواطنة المرأة هي مدار مواطأة الحداثة للشريعة
عندنا. ونقلت لكم أمس رأي عبد الحي الشاطح الفظ في النساء. فقال في كتابه
“كلمات للمرأة” إن المرأة تحدق بها حبائل كثيرة عَدَّدها لأنه يفترض في
المرأة السقوط، ولا يثق في أنها ستكتفي بخطاب الاسلام لها مباشرة كمكلفة. فعبدالحي
لا يري النساء إلا نمامات كاذبات لهن بهتان “في جلسات لاغية وكلمات
لاهية”. ويصور خروجهن للعمل العام كتزعم للمؤتمرات ويتصدرن الاحتفالات يلوحن
بأيديهن ويرفعن أصواتهن. وسيكون معيباً بحقه لو ظهرت أي امرأة في لمُلام نصرة
الشريعة حتى لو كانت في مقام النائبة المحترمة السيدة سعاد الفاتح.
لو توقف عبد الحي هوناً عند النساء قضاة الشرع عندنا
لعرف أنه خَالِف عن سماحة الإسلام عندنا الذي لم تُشكل عليه مواطنة المرأة حين أزف
وقتها. فما اعترفت الدولة بتلك المواطنة بعد ثورة أكتوبر 1964 بتزيين جيدها بحق
التصويت حتى وجدت المرأة طريقها إلى سدة القضاء الشرعي بعد القضاء المدني. وكان
ذلك بفضل قاض عدل سبط هو مولانا المرحوم شيخ محمد الجزولي (1910-1999)، قاضي قضاة
السودان في السبعينات، الذي وسع الدين والمجتمع خلافاً لعبد الحي أب ماعوناً نصوصي
أشرم.
تخرَّج المرحوم من قسم القضاة في أصيل كلية غردون
القديمة عام 1940 قبيل أن تُصبح هي المدارس العليا التي تدرجت حتى أصبحت جامعة
الخرطوم المعروفة في 1956. ومن دفعة المرحوم في الكلية المراحيم الرشيد نائل
المحامي ومولانا البداني ومولانا مجذوب كمال الدين من أعرق مواطني بري المحس. وقد
عاصر المرحوم البروفسير عبد الله الطيب في الكلية. وقال لي البروفسير عبد الله
الطيب مرة إن المرحوم كان أول دفعته، وهمه منصرف إلى قراءة القانون في حين كان
الرشيد نائل والبُداني يقرضان الشعر. وكان المرحوم البداني مولعاً بقراءة مجلة
مخصصة للسينما والنجوم.
عاش المرحوم التاريخ العاصف الذي ابتلى الله به القضاء
الشرعي من لدن تأسيسه. فحين جاء إلى القضاء الشرعي في الأربعينات كان الجهاز كله
في حالة دفاع عن وجوده ضد سياسة الحكم غير المباشر التي أسسها الاستعمار. فكان هدف
هذه السياسة أن تُصفَّي المحاكم الشرعية (وصُـفِّيت منها 12 محكمة بالفعل في
الثلاثينيات) لتحل محلها محاكم الإدارة الأهلية التي منحها الإنجليز سلطة النظر في
قضاء الأسرة. وقال لي المرحوم مرة إنه لم يقبل عرضاً بالتحول إلى القضاء المدني
لأن القضاة الشرعيين كانوا يخشون ضياع قضاء الشرع بسبب هذه الإغراءات للهجرة
للقضاء المدني.
جاء مولانا المرحوم للقضاء الشرعي بأمر باهر سيبقى
واحدة من أبر أياديه على الإسلام والأسرة والوطن. فقد عيَّن في 1970 مولانا نجوى
كمال فريد، الطالبة النشاز في قسم الشريعة بجامعة الخرطوم، قاضية شرعية في وجه
تحفظ جمهرة القضاة. وكانت هذه جسارة منه مساوية لجسارة مولانا نجوى نفسها. فنجوى
قد تخرجت من مدرسة اليونتي الثانوية وما كانت تُحسن لف الثوب حين التحقت بقسم
الشريعة الرجالي جداً. وكانت تهوى علم النفس وأرادت أن تدرسه بالجامعة. غير أن
أستاذها نبهها إلى إن علم النفس لم يكن يدرس يومها بالجامعة، وحَسَّن لها أن تلتحق
بقسم الشريعة لأنها أقرب العلوم إلى علم النفس لاتصالها بقضاء الأسرة [من هذا
الأستاذ الرشيد؟ لله درُّه]. وحين تخرجت مولانا نجوى عينها المرحوم آخذاً بالمذهب
الحنفي الذي يبيح قضاء المرأة. غير أنه تردد في أمر جلوسها للحكم في القضايا،
فحجبها عن المحكمة، وشغلها بالبحث والرأي في فقه القضايا.
وقصة مولانا نجوى تستحق أن تُروى وتُذاع. فلم يصدق أحد
قرارها بالالتحاق بقسم الشريعة أو مصيرها من بعد ذلك. فمن ذلك أنه كان تعيينها في
أول أبريل 1970 فكان أصدقاؤها يقولون لها إن تعيينك هذا “كذبة أبريل”.
وانفتح الباب بعد ذلك للبنات يتدافعن بالمناكب إلى منصة قضاء الأسرة. حتى إنني
كلما قرأت إعلانات المحاكم الشرعية في الصحف ونظرت إلى أسماء القضاة النساء يوقعن
“صدر بتوقيعي وختم المحكمة” قلت في نفسي: “هذه من بركات شيخ
الجزولي” فهو بهذا الصنيع قد مكن للمرأة أن تستمع، من موقع القرار، إلى دراما
الزوجية والوالدية المثيرة. والأخطر من ذلك شأناً أنه أتاح للصفوة من النساء أن
يستمعن لفقيرات النساء الطالبات للحضانة أو النفقة أو الطلاق للضرر. وهذه مدرسة في
التعليم من أسفل تشتد الحاجة إليها في وقت استأثرت الأفنديات، البرجوازيات،
العصريات بشاغل المرأة وأصبحت أوجاعهن الحقة وغير الحقة هي أوجاع سائر النساء.
وأيدي المرحوم الخضراء شتى. فقد رعى أبحاث الدكتورة
كارولين فلوهر-لوبان، أستاذة الأنثروبولوجيا بكلية رود أيلاند بالولايات المتحدة،
حين جاءت في أوائل الثمانينات ترغب في دراسة التجربة السودانية في قضاء الأسرة
الشرعي. وكتبت الدكتورة فلوهر-لوبان في ظل حفاوة المرحوم وعنايته بحثاً لم أر أميز
منه في احترام التقليد الشرعي السوداني الحديث من حيث انفعاله بمستجدات وأزمات
المجتمع. وهذا تقريظ مرموق للقضاء الشرعي من ماركسية مؤكدة الخطر والصفاء في مقام
الدكتورة فوهر-لوبان. وقد أهدت كتابها المعنون: “الشريعة والمجتمع في
السودان، 1987” إلى مولانا المرحوم عرفاناً بفضله على الكتاب.
سبق المرحوم إلى الدار الآخرة قبل أن يرى الكتاب
مترجماً في العربية بفضل الدكتور محجوب التيجاني ومنشوراً في ألمانيا بفضل الأستاذ
البشير سهل. كان سيُسعده أن يقرأ السودانيون هذا السفر في العربية ليقفوا على
الطريقة المتأنية التي أخذ بها قضاة الشرع أمر الأسرة والإسلام إلى غاية طيبة برغم
أنهم ظلوا يعملون في بيئة طاردة مؤسفة وظالمة.
صعد المرحوم إلى بارئه وقبره ظاهر يزار بمدافن وجوه
الختمية بمقابر المحجوب ببحري. ولا أفوت الوقوف عند قبره والترحم عليه كلما ساقني
الظرف إلى تلك المقابر. كانت في مولانا فطانة في أمر يخوض مثل عبد الحي فيه بقلم
أحمر ونصوص كزة من إرساليته التبشيرية .
IbrahimA@missouri.edu