أعجبتني الاستجابة السريعة من قيادة قوى الحرية والتغيير لطلب المجلس العسكري بإزالة المتاريس من الشوارع خارج منطقة الاعتصام لأنها تعوق سير الحياة الطبيعية في أنحاء العاصمة ويتضرر منها الكثيرون، وليس ذلك مما يحتمل طويلا. وانتشرت قيادة التغيير في أوساط حشود الشباب المتحمسين لتقنعهم بجدوى القرار الجديد بعد أن تقدمت المفاوضات مع المجلس العسكري خطوات للأمام، ولم يكن اقناع الشباب سهلا ولكنهم قبلوه بروح طيبة ثقة في قيادتهم ونفذوه خلال يوم واحد بدلا من ثلاثة. وأسعدني أيضا أن قبلت قيادة التغيير منح ثلث مقاعد المجلس التشريعي للقوى السياسية الأخرى غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير مما يدل على انفتاح أكثر مع الآخرين وهو أمر مطلوب ومفيد. وطبيعة السياسة التوافقية في كل مجتمع أن تأخذ بسنة الأخذ والعطاء بين الأطراف المختلفة حتى تصل إلى مرحلة وسطى يتوافق عليها الناس ويقدمون على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بسلاسة ورضى. والمرحلة الفاصلة التي نعيشها اليوم في تاريخ الثورة السودانية تحتاج إلى توافق واسع حتى تحقق الثورة أهدافها الكبرى المعلنة، فقوى الحرية والتغيير ليست الوحيدة في الساحة السودانية ولن تستطيع أن تفرض كل مطلوباتها على جميع القوى الأخرى بما فيها المجلس العسكري والقوى السياسية التقليدية (المتحالفة مع النظام أو غير المتحالفة) والحركات المسلحة والجماعات الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها. فالقوة المطلقة هي صفة ربانية يمتلكها العليم القدير وحده ولا تتاح لبشر مهما جمع من أسبابها.
وفي المرحلة الفاصلة التي تعيشها البلاد حاليا لابد لقوى التغيير أن تحدد بوضوح ما هي قضيتها الأولى التي تريد أن تكسبها حتى تحقق أهدافها الكبرى التي سعت إليها من خلال هذا الحراك الشبابي الضخم الذي زلزل أركان النظام السابق وأطاح به، ان هذا التحديد الواضح يعطي قوى التغيير الفرصة للتمسك بثوابتها الرئيسة والتنازل عن غيرها من القضايا الثانوية التي يمكن اثارتها في مراحل لاحقة. ويعجبني قول بعض الفقهاء الأقدمين: اجعل الهمّ همّاً واحداً. وذلك بالطبع حتى لا تتشتت الجهود في مسارات عديدة تتوه فيها القضية الرئيسة. لقد تحركت بعض القوى التي كانت ساكنة في الأيام الأخيرة اعتقادا منها أنها أهملت أو أقصيت من التشاور والمشاركة ولقيت قدرا من التفهم من المجلس العسكري لأسباب سياسية أو تكتيكية. وربما يزداد مثل هذا الحراك من آخرين في الأيام القادمة ويعود بالناس القهقرى حتى على ما تم الاتفاق عليه.
والقضية الأولى في تقديري التي ينبغي أن تكون محور المعركة السياسية هي إزالة الدكتاتورية التي عانى منها السودان طويلا وزراعة الديمقراطية التعددية على أنقاضها، وقد لخص الشباب هذا الهدف الكبير في تعبير شعبي بسيط “تسقط بس”. وماذا تعني الديمقراطية التعددية في هذه المرحلة الانتقالية الفاصلة؟ أرى أنها تعني الآتي من المهام التي ينبغي التمسك بها بقوة:
1. تكوين حكومة مدنية على مستويات الأجهزة الثلاثة: المجلس التشريعي، الحكومة التنفيذية، المجلس السيادي؛
2. إحلال السلام مع الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، لأنه بدون السلام لا تستقر الديمقراطية ولا يتطور اقتصاد البلاد، ومعالجة مشكلات النازحين واللاجئين في مناطق النزاع واسترداد أراضيهم المغتصبة وتوفير الخدمات الضرورية لهم وتعويضهم عن خسائرهم الفادحة؛
3. توفير الحريات الأساسية في المجالات المختلفة، ولا حجر على أحد إلا بقانون مجاز؛
4. حماية حقوق الإنسان التي تنصّ عليها المواثيق الدولية واعتمدها السودان في الدستور الانتقالي لسنة 2005 قبل تعديلاته المعيبة؛
5. معالجة الضائقة الاقتصادية الخانقة والعمل على خفض الفقر الذي استشرى في أنحاء البلاد بنسبة تقارب ال 50%؛
6. اصلاح الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الاقتصادية وإعمار مشروعات البنية التحتية المنهارة؛
7. تنظيف الساحة السياسية والاقتصادية من كل ما يعوق إقامة انتخابات حرة ونزيهة وعادلة عقب الفترة الانتقالية.
بعض الناس قد يظن أن هناك قضايا عديدة سياسية وفكرية ظلت مكان جذب وخلاف بين القوى السياسية منذ الاستقلال وما زالت معلقة وأعاقت مسيرة البلد للأمام وجاء الوقت لحسمها في الفترة الانتقالية بروح الثورة الشبابية الحالية، وهؤلاء كأنما يدعون لحسم هذه الخلافات بسلطة الدولة القوية. وهذا توقع في غير مكانه ولا يخلو من أجندة خفية، فالخلافات السياسية بين أطراف الطبقة السياسية موجودة في السودان وستظل موجودة لسنوات كثيرة قادمة، والاختلافات بين الاتجاهات الفكرية موجودة وستظل موجودة، وكذلك التباين بين المجموعات الاجتماعية والثقافية ستظل قائمة لعهود قادمة. فمثل هذه الاختلافات والتباينات مما لا يحسم بالسلطة مهما كانت قوتها لأنها ترتبط بالأفكار التي لا تقارع بالسيف بل بأفكار مقابلة، وقد تؤدي معركة الأفكار إلى تقارب بينها أو اندماج أو تباعد كل ذلك يجوز في ساحة الفكر والرأي والمعتقد. ولا مصلحة للثورة بإثارة هذه القضايا الخلافية العديدة لأنها قد تؤدي إلى تشقق في الصف الموحد حول قضية الثورة الرئيسة، ولأنها غير قابلة للحسم في الفترة الانتقالية المحدودة وستشغلها عن كثير من القضايا العملية التي ينبغي الاهتمام بها واعطاءها الأولوية اللازمة. وقد حاولت حكومة الإنقاذ بكل جبروتها أن “تعيد صياغة الإنسان السوداني” بإجراءات عديدة مثل تغيير مناهج التعليم العام وفرض اللغة العربية على الجامعات ووضع قوانين دينية جديدة وإنشاء مؤسسات دعوية على مستوى القطر وبتمكين قيادات تنظيمية على إدارات الدولة المختلفة فماذا كانت النتيجة؟ فشل ذريع وفساد استشرى في الدولة والمجتمع!
هناك لاعبون إقليميون مؤثرين لا يريدون إقامة نظام ديمقراطي في أي بلد عربي بعيدا منهم أو قريب حتى لا تصل إليهم عدوى الثورة الديمقراطية في يوم من الأيام وتحطم أنظمتهم القمعية، وأحسب أن هؤلاء سيعملون بكل ما يستطيعون لتخريب النظام الديمقراطي في السودان، وسيجدون داخل البلد من يساعدهم على ذلك طمعا في مال أو نفوذ أو أملا في امتطاء سلطة دكتاتورية جديدة. ولكن هؤلاء اللاعبين المؤثرين أضعف مما يظن الكثيرون لأنهم يريدون العودة إلى ماض أو حاضر انتهت مدته الافتراضية في التاريخ المعاصر حتى بمقاييس العالم العربي المتخلف في مجال الحرية والديمقراطية. وليس من مصلحة السودان الدخول في مواجهة مع هؤلاء ولكن ينبغي الدفاع بكل قوة عن خيارنا الديمقراطي مهما كلفنا ذلك لأننا جربنا الأنظمة الدكتاتورية على مدى خمسين عاما فلم نجني منها خيرا وتخلفت بلادنا في كافة المجالات. والدفاع عن الديمقراطية يتطلب وحدة شعبية واسعة تتصدى للمؤامرات الخارجية ولبناء الوطن ليصبح قويا يقف على رجليه، وسيجد السودان من يؤيده ويعينه على هذا الطريق رغم صعوبته. فالقوى الدولية تناصر الحرية والديمقراطية وتنص على إلزاميتها في كافة مواثيقها الرسمية مثل الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والاتحاد الافريقي كلهم يقفون مؤيدين للثورة الديمقراطية في بلاد كثيرة بدرجات متفاوتة. وشعوري الداخلي أن هذه الثورة الشبابية العارمة غير المسبوقة ستغير وجه السودان القديم مهما تعرضت له من عقبات، وستنتصر في نهاية المطاف رغم كيد الكائدين ومطامع الطامعين. لقد عرفنا الطريق وعلينا أن نلتزمه إلى نهاية الشوط.
altayib39alabdin@gmail.com