التقينا حسب الموعد عصر يوم خريفي من أيام شهر يوليو 1960 في مشرع ودمدني لنعبر النهر معاً.. كان كل منا يحمل شنطة ملابس صغيرة ولحافاً قطنياً خفيفاً وجدنا لهم ولنا مكاناً في المركب المشدود إلى الرفاس الشهير الذي يحمل اسم “هدهد”..
امتلأ المركب والرفاس بالركاب وعبر بنا بعد دقائق إلى الضفة الشرقية من النيل الأزرق إيذاناً ببداية أول يوم لنا، يحيى الحاج وأنا، في مدرسة حنتوب الثانوية. كنا نحمل بجانب أمتعتنا أحمالاً أخرى غير قليلة من الآمال والأحلام والترقب، وإن كان كل ذلك ممزوجاً بفرحة كبيرة في دواخلنا، ونحن نخطو أولى خطواتنا في ذلك العالم الجديد الغامض.
لم يكن المكان جديداً تماما ليحيى مثلي. المشرع.. مدني..حنتوب. فهو قد نشأ وترعرع هناك، وعبر ذات النهر مرات ومرات. درس المتوسطة في مدينة الحوش ومسقط رأسه في الشريف يعقوب التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق من حنتوب، بينما جئت أنا من مكان بعيد نسبياً.. مدرسة القضارف الأميرية الوسطى، وإن كانت الجذور الأسرية قد جاءت بي مرات قليلة من قبل للجزيرة وودمدني والشريف يعقوب. كانت مدني مصدر دهشة جميلة تتجدد كل يوم.
في المدرسة توزعنا على الداخليات، فذهبت أنا لداخلية عثمان دقنة، وذهب هو لداخلية ود ضيف الله، ولكن بعد أشهر قليلة جمعتنا داخلية شيدت حديثاً آنذاك تحمل اسم عبدالله جماع.
في فترة زمنية وجيزة أصبح يحيى يفوق كل رموز ومعالم حنتوب شهرة..صار أكثر شهرة من جرس المدرسة وبرج الساعة والهدهد الذي يعلو البرج والرفاس والمشرع.
اشتهرت موهبته كفنان مسرحي وممثل كوميدي خفيف الظل تتابعه خفة ظله في تفاصيل حياته اليومية، فاكتسب بجانب الشهرة حب الناس وشبكة واسعة من العلاقات الإنسانية الحميمة التي تتوسع كل يوم وتضم مختلف طبقات المجتمع.
أثناء الدراسة في حنتوب وجد مكاناً على خشبة المسرح القومي في أحد المهرجانات الصيفية، ثم وجّه الهواية والموهبة لتتحد مع الدراسة والمهنة لصياغة مستقبل مهني وعلمي، استغرق كل حياته بعد أن تخرج في حنتوب، وحين افتتح المعهد العالي للمسرح في الخرطوم أواخر الستينيات انتسب إليه من دون تردد بعد أن ظل لوقت ليس بالقصير يمارس المسرح من دون دراسة، فأضاف العلم للموهبة، ثم عمل أستاذاً مساعداً في نفس المعهد حتى ابتعث بعد ذلك لانجلترا للدراسات العليا في المسرح.
يتحلى يحيى بقدر كاف من الشجاعة والثبات لتحويل المصيبة لمجرد وقفة أو كبوة صغيرة يضعها تحت قدميه ليرتقي من فوقها للمستقبل. في شهر مايو 1976م هاتفته من فندقي المجاور لمطار هيثرو في لندن، والذي جئته عابراً “ترانزيت” لليلة واحدة في طريقي من الخرطوم لطنجة، وكانت أول وآخر زيارة لي للندن. قلت له على الهاتف أنني علمت في بلد لا تحفظ الأسرار إلى الأبد إن الملأ يأتمرون ب، وسيتلقى بعد فترة من الوقت عبر آلية الملحق الثقافي والحقيبة الدبلوماسية خطاباً بفصله من المعهد تحقيقاً للصالح العام. هو ذات الصالح العام اللعين الذي ظل ضالة بلادنا منذ فجر الاستقلال.
أدهشني الرجل عندما أطلقها ضحكة رنانة عبر الأثير بددت الحزن الذي سكنني والتعاسة التي كانت تغمر المكان. هذه الضحكة أعقبتها فترة طويلة من المعاناة في إنجلترا بعد انقطع عن يحيى راتب حكومة جمهورية السودان(التي كانت تحمل اسم الديمقراطية آنذاك)، ولكن بعزيمة صلبة تفتت الصخر استطاع أن يكمل دراسته بنجاح مشتغلاً في شتى المهن الصعبة.
كان يحيى يملك القدرة لتحويل المراقف الحرجة لمزحة عابرة. خلال فترة إضراب حنتوب ونحن في سنتنا النهائية، كان في زيارتي في القضارف لنمضي معاً بعض الأيام، وفي نفس يوم وصوله كنا ثلاثتنا حول صينية الغداء،والدي وهو وأنا.
ربطت بين والدينا،عليهما رحمة الله ورضوانه، أخوة صادقة في الله وصداقة حميمة توارثها الأبناء. أخبرني والدي بشيء غير قليل من الغضب الهادىء أنه قد تلقى خطاباً من إدارة المدرسة يفيد بإيقافي من الدراسة لفترة أسبوعين بعد استئناف الدراسة، وذلك لمشاركتي في الإضراب، ثم ناولني الخطاب لأقرؤه وكان بتوقيع ناظر المدرسة.
كان أمراً مستبعداً وخبراً مدهشاً إذ لم يكن لدي نشاط يلفت الأنظار ويجر عليّ هذا الإيقاف، فقد كنت كالغالبية (أمشي جنب الحيطة) بقدر الإمكان وأحفظ وصية والدي بعدم الالتحاق بأنصار السنة والشيوعيين والإخوان المسلمين ووصية والدتي بالابتعاد عن البحر.
المهم أن يحيى الذي ظل صامتاً طوال الوقت يستمع لكلمات والدي الغاضبة قرر أن يقطع زيارته القصيرة أصلاً، ويسارع بالسفر ليستبق خطاباً مماثلاً في شأنه لا محالة في طريقه لأخيه الأكبر حاج الأمين، ويهييء حاج الأمين للمشكلة القادمة. قال معلقاً على الموقف وهو يضحك..”يبدو أن الوالد لا يتطرق الشك ليقينه ببراءتي، ويعتقد أنك وحدك الموقوف من الدراسة. أتمنى ألا تزيد فترة إيقافي عن فترتك.” وتحول خطاب الإيقاف من الدراسة لضحكة كبيرة.
جاء إلى دولة الامارات لأول مرة عام 1980م في زيارة خاطفة، ولكنه بقي هناك استجابة لرغبة ابن عمه ليعمل لبعض الوقت ليجمع بعضاً من المال يعينه على رحلة الثانية لإنجلترا لاستكمال دراساته، لكن المقام طاب له في الإمارات لما يقارب الأربعة عقود. قال في منتدى ثقافي في الشارقة أنه كان يكسب بعض المال بالفعل بيد أن ما كان يكسبه لم يكن يبقى طويلًا.. يأتي ليذهب ثم يأتي ليذهب، على عكس قريبه الذي كسب الكثير وقفل راجعاً للسودان.
أوضح ذات مرة في مناسبة صدور كتابه “الفن المسرحي من البدايات إلى هنريك إبسن” ضمن منشورات دائرة الثقافة، أوضح أنه ليس نادمًا لأن الوقت مضى عليه من دون أن يعود إلى لندن التي أمضى فيه انضر سنوات عمره، وقال “لقد حققت الكثير من إقامتي هنا، كسبت العديد من الأصدقاء والتلاميذ، أحببتهم وأحبوني، أشرفت على ورش وشاركت في إنتاج عروض، وفي تأسيس برامج مسرحية؛ وكل ذلك هو الإرث الذي أعتز وأفخر به وهو الذي لا يشعرني بالخسران”.
أسهم يحيى بلا شك في توطين المسرح في الحياة السودانية تمثيلاً وإخراجاً وتدريساً، وقدم الكثير في هذا المجال، لكن عطاءه في الامارات كان أكبر حيث ساهم على مدى أربعة عقود في تنمية العمل المسرحي وتأهيل الكوادر الشابة في الإمارات من خلال تقديمه للعديد من الدورات والورش المتخصصة، كما أنه ترك بصمات نقدية في العديد من المهرجانات والملتقيات الفنية والأدبية في مجال الفنون المسرحية، داخل الإمارات وخارجها، وقدم العديد من الدراسات والأبحاث المتخصصة في المسرح التي تمثل وثائق مهمة ومراجع قيمة لجميع الفنانين العرب، وتوج ذلك العطاء الثر باختياره شخصية العام في الإمارات، في الدورة الخامسة لمهرجان الشباب في دبي، وذلك تقديراً لأدائه الرائد في العمل المسرحي في الامارات مطوراً ومدرساً ومخرجاً وحكماً ومدرباً وراعياً للمواهب الشابة.
رغم مظهر الشخصية المنعتقة التي تنثر الفرحة بسخاء في كل مكان وزمان، كان يحيى مرتبا شديد الانضباط في أمور حياته الخاصة، كثير الأناقة، سباقاً لفعل الخير ومساعدة الآخرين، سخياً جواداً، حميماً وفياً في علاقاته رغم تنوع هذه العلاقات وامتدادها عبر الحدود.
كان يتمتع بالتدين الحقيقي الذي يتجاوز المظهر إلى الجوهر والشكل إلى الروح، بجانب إتزان سلوكي واستقامة خلقية لا محدودة تجللها نكهة صوفية زاهدة تناغم فيها المكتسب مع الموروث الأسري. كان إنساناً استثنائياً شديد التميز والتفرد متصالحاً مع نفسه في جميع الأوقات كأجمل ما يكون ذلك التصالح. يحيى نموذج للموهبة السودانية التي يضيق بها بلدها فتجد الاعتراف والتقدير في بلاد الآخرين.
أحسب أن المرة الوحيدة في حياته التي تخلت فيها ابتسامته الصافية عنه وتركته وحيداً لقهر الحزن كانت عند رحيل رفيقة دربه المفاجيء. جمعهما معهد الموسيقى والمسرح في الخرطوم ثم تشاركا المهاجر والأحلام، وكانت تشكل له سنداً غير محدود ودفعاً معنوياً عظيماً.
قال لي عبر الهاتف إنه أصبح لأول مرة يحس بالوحدة رغم إنهم في الشارقة يحرصون على إبقائه في حالة سفر دائم بقدر الإمكان للمشاركة في جميع اللقاءات المسرحية والثقافية في البلدان العربية. الإحساس بالوحدة يطارده في المطارات ويسكنه في المدن. قلت له إن قلوب محبيه العديدين في كل مكان كفيلة بأن تبدد بعضاً من هذه الوحدة.
استضافني في مطعم عائم في الشارقة نهار يوم من الأيام عندما جئت زائراً لدولة الإمارات من مدينة الدمام لأول مرة والتقينا بعد سنوات طويلة من التيه والحلم بالمستقبل في بلاد الآخرين. سرح فكره بعيداً وهو يرمي ببصره في مياه الخليج الصامتة التي تحيط بالمركب. أمسك بخيال الفنان اللامحدود بخاصرة اللحظة وعاد بها من الماضي الممتد للحاضر المرتد.
تقهقر لأربعة عقود من الزمان واسترجع يوم عبورنا النهر معاً لأول من شاطيء ودمدني إلى حنتوب. قال لي وهو لا تفارقه ابتسامته الصافية المميزة له دائماً.. كنا صبية صغاراً يومها..انظر اليوم كيف تنفلت بنا قاطرة الزمن.. ساد الصمت للحظات ما لبث أن بددها بطرفة جديدة استردت الحاضر من خناق المجهول.
انقطع التواصل بيننا للأسف لعدة أشهر قبل رحيله تمكنت منه خلالها مجموعة من العلل حتى جاء يوم الأربعاء 13 ديسمبر 2018م ليعبر يحيى النهر الكبير، وحده هذه المرة، إلى حيث لا ترقى الأباطيل. انتهت المسيرة العظيمة للايقونة “الفنية المعرفية الملهمة للعديد من الأجيال”. ومثلما احتضنته الشارقة في حياته وضنّت به على بني وطنه ، فقد ضنّت به عليهم بعد مماته واحتضنه ثراها إلى الأبد.
اللهم ارحم أخي الحبيب يحيى الحاج ابراهيم دفع الله الشاعر واجعل قبره روضة من رياض الجنة واسبغ بركاتك على أبنائه من بعده، وألهم أهله وذويه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.
قبل الختام:
ولأن حزن الوطن الكبير يبتلع في جوفه الحزن الخاص ولأن أولوياته تطغى على كل أولوية فقد تمهلت في نشر هذه السطور التي كتبتها عند رحيله، ولكني أحسب الآن أن الوقت مناسب لنشرها وأن يحيى سيكون سعيداً في عليائه وهو يشهد رحيل، أو بداية رحيل، قاتلي الفرح والأطفال وانطواء صفحتهم إلى الأبد إن شاء الله، وانقشاع موجة القبح وعودة نفحات الإبداع تظلل سماوات الخرطوم من جديد.