أديت صلاة الجمعة الماضي (12 رمضان 1440هـ الموافق 17 مايو 2019م) بخيمة (مجددون) في الجهة الشرقية من ميدان الاعتصام. أمّ المصلين فيها الشيخ الدكتور ماهر مهران، الذي سبق أن سمعت عن انحيازه لخيار الشعب في التغيير وصدحه بالحق، ولعل هذا ما فتح له الباب لإمامة المصلين بساحة الاعتصام.
أورد الشيخ في خطبته تلك أن الناس لم يخرجوا إلى الشوارع
لإسقاط النظام من أجل تعديل الدستور أو إلغائه، ولكنهم خرجوا مطالبين بالتغيير لما
أصابهم من ضيق في المعاش، وغلاء فاحش.
انطلاقاً من هذه الفرضية، وجه الشيخ النداء إلى المجلس
العسكري وقوى الحرية والتغيير والمعتصمين في الميدان بضرورة عدم المساس بالدستور
تعديلاً أو إلغاءً حتى تأتي حكومة منتخبة يرتضيها غالبية الشعب السوداني لتقوم بهذه
المهمة، خصوصاً أن كثيراً من المساجد تنادى بذلك، وهذا ما يستوجب –في رأيه- درء
الفتنة وهي نائمة لعن الله من أيقظها.
أتبع الشيخ ماهر خطبته تلك بتغريده في تويتر فير اليوم
التالي ذاكراً أن المخرج مما نحن فيه أمران: حكومة كفاءات بلا انتماءات وعدم تعديل
الدستور إلا من قبل حكومة منتخبة بعد الفترة الانتقالية، وهذا ما ركزت فيه الخطبة.
وعلى النهج ذاته، أصدر الدكتور عبد الكريم محمد عبد
الكريم الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية بياناً بتاريخ (14 رمضان 1440 هـ
الموافق 19 مايو 2019م) ذكر فيه أن المرحلة الحالية ليست للتداول في أمر الدستور
ورسم ملامح الحكم مما يتطلب أهمية الإبقاء على الدستور على ما هو عليه، إلى حين
تكوين الآليات المناسبة ذات التفويض الكافي، وذلك بعد انتهاء الفترة الانتقالية
تجنباً لحالة الاحتقان والحشود المتبادلة.
كانت مفاجأة بالنسبة إليّ أن يختزل إمام المعتصمين أسباب
الثورة في مطالب المعيشة، متناسياً شعارات الثورة الأساسية، وفي مقدمتها شعار (حريه
سلام وعدالة والثورة خيار الشعب). هذا الشعار الذي خرج من أجله شبابنا المتوثب وجماهير
شعبنا رجالاً ونساء بشجاعة وبسالة غير مسبوقتين شهد لها القاصي والداني.
إن صمود الثوار شهوراً عدداً جاء من أجل استعادة الحريات
التي سلبها النظام، تكميماً للأفواه وتشريداً وضرباً وسجناً في الزنازين وبيوت
الأشباح، بل مطاردة وسحلاً في الشوارع وحتى داخل حرمات المنازل والجامعات.
خرج الثوار ينشدون إيقاف الحروب، وتحقيق السلام العادل
الشامل، والتحول الديمقراطي الكامل في كل بقاع الوطن التي حولها النظام إلى ساحات
حرب ومحرقة لأبنائه. خرجوا ينشدون عدالة السماء قبل عدالة الأرض للتخلص من ظلم حاق
بهم؛ نتيجة التمكين، وفساد الحكام والموالين، وبحثاً عن سيادة العدالة وحكم
القانون، فكيف يمكن أن يُختزل ذلك كله في البحث عن لقمة عيش. ثم كيف يمكن مطالبة
الضحايا الذين كسروا قيود القهر والظلم والاستبداد والفساد ليعودوا مرة أخرى أسرى دستور
ظالم أعده جلادوه، وتسلطوا به على رقاب الشعب! والسؤال المهم: هو هل يدري كل من
الدكتور مهران والدكتور عبد الكريم والمطالبون بعدم المساس بالدستور حتى نهاية
الفترة الانتقالية ما يترتب على دعوتهم تلك من نتائج دستورية وقانونية؟ إن كانوا يدرون
ذلك، فإنه مكمن الخطر، وإن كانوا لا يدرون فإنه كارثة أكبر، إذ كان حريّاً بهم
الاستئناس برأي أهل المهنة والخبرة قبل إطلاق مثل هذه الدعوة الخطيرة على الهواء.
إن المطالبة بعدم
المساس بالدستور حتى نهاية الفترة الانتقالية تعني إعادة العمل بالدستور الذي قام بإلغائه
المجلس العسكري الانتقالي، وعودة العهد البائد بمؤسساته وشخوصه، ومن ثم إجهاض
الثورة. وهذا يعني بالضرورة أن الثورة وانحياز القوات النظامية باطلان، ويعدّان خرقاً
للدستور، وهذا ما يضع الثوار والمجلس العسكري أمام المساءلة والمحاكمة الدستورية
والقانونية.
والأمر الآخر الذي يجب الوقوف عنده: هل يعلم المطالبون
بالإبقاء على الدستور وأولئك الذين يحشدون مواكب ما يسمي بنصرة الشريعة أن لا
علاقة لدستورهم بالشريعة المفترى عليها؟ وهل يعلم هؤلاء أن هذا الدستور يشكل ردة عما
سبقها من دساتير كانت تؤكد أن الشريعة الاسلامية مصدر أساسي للتشريع؟ وحتى إذا
فرضنا جدلاً أن الدستور المطالب بالإبقاء عليه هو الشريعة فهل طبقت الحكومة
البائدة الشريعة؟ أم ظل حكمهم ظل طوال ثلاثين عاماً مفارقاً فعلاً لكل ما له صلة بالإسلام؟
إن الشريعة التي يطالبون الإبقاء عليها وعدم المساس
بها هو دستور السودان الانتقالي لسنة 2005، الذي فرضته القوى العالمية أو قوى
الاستكبار كما كانوا يسمونهم عند التوقيع على اتفاقية السلام في نيفاشا بين الحكومة
والحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا علاقة له بشرع الله. فالمادة (5) من الدستور
المذكور نص على أن الشريعة الاسلامية والاجماع والتوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب
السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان مصدر
للتشريعات التي تسن على المستوي القومي.
والواضح من ذلك أن الشريعة الاسلامية لا تتعدى كونها واحدة
من مجموعة من المصادر التشريعية تتساوى في درجتها مع المصادر الأخرى، وهذا ما يجعل
من خطل القول الحديث عن الشريعة التي لا يجوز المساس بها.
وبمقارنة بسيطة للنص المذكور مع ما ورد في دساتير
سابقة حول مصادر التشريع نجد أن النص الحالي فيه ردة واضحة عن الشريعة الإسلامية، ونشير
هنا على سبيل المثال من باب المقارنة إلى المادة (9) من الدستور الدائم لجمهورية
السودان الديمقراطية لسنة 1973 (دستور نظام مايو)، والمادة (65) من دستور السودان الانتقالي لسنة 1985(دستور
الانتفاضة)، إذ ورد النص الخاص بمصادر التشريع متطابقاً في الدستورين:
(الشريعة الاسلامية والعرف مصدران رئيسيان للتشريع،
والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم).
رغم ما حدث من تراجع في هذا الشأن في دستور السودان
لسنة 2005م، وتساوي الشريعة مع مصادر متعددة لم نسمع صوتاً أو احتجاجاً ضد هذا
التراجع ممن يملؤون الساحة ضجيجاً وعويلاً الآن، وهذا ما يؤكد أن الاحتجاجات الحالية
لا صلة لها بالتزام الشريعة، ولكنها بكاء على اللبن المسكوب، ومحاولات مستميتة لإعادة
سلطة تسربت من بين أيديهم ظلت تشكل لهم مدخلاً لمصالح وميزات شخصية.
إن خصوم الشريعة الحقيقيون الآن ليس من يتهمهم الغلاة بالعلمانية،
ولكن الاسلام يواجه الخطر الحقيقي من أدعياء الاسلام الذين يتاجرون باسم الدين بينما
هم الأكثر بعداً منه، وما رفعه هؤلاء الغلاة من شعارات في ميدان الشهداء قبل يومين
من نوع أن الاسلام والديمقراطية خصمان لا
يلتقيان، الاسلام والدولة المدنية عدوان،
والإيمان والعلمانية ضدان تعكس ضحالة الفكر، وسطحية المعرفة.
لقد أصبح الدستور الانتقالي لسنة 2005 وما ترتب عليه
من أجهزة ومؤسسات، ومن هم على قيادتها في ذمة التاريخ ولا مجال للعودة الي الوراء،
والأمر الطبيعي والدستوري هو استمرار الثورة لتحقيق جميع شعاراتها وأهدافها وتطلعات
الشعب السوداني من خلال التوافق على إعلان دستوري يُجاز من المجلس التشريعي
الانتقالي لحكم الفترة الانتقالية، على أن ينعقد المؤتمر الدستوري لإعداد مسودة
الدستور الدائم الذي يتم إجازته بواسطة المجلس التشريعي المنتخب.
ونداؤنا للشيخين
مهران وعبد الكريم أن يعيدا قراءة الدستور الذي يرون عدم المساس به ومراجعة موقفهما
من ذلك، وأن يعملا على درء الفتنة بنصيحة الذين يودون الانتصار لذواتهم على حساب
الشعب للعودة إلى رشدهم، والدعوة إلى الإسلام المتسامح بالحكمة والموعظة الحسنة،
فما يقوم به هؤلاء من تحشيد وتحريض هو الفتنة بعينها التي يجب درؤها، والله الهادي
الى سواء السبيل.