واقع الحال أن هناك عدد من السيناريوهات تتصارع الان داخل الوطن وكل واحد منها لا يكترث كثيراً بما يمكن ان يدفعه الشعب السوداني من أثمان لكي ينتصر انتصاراً يكسر فيه عظام المهزوم. وأيا من هذه السيناريوهات للأسف لا يلقى بالاً لما يمكن أن يراق من دماء أو ما يطال الوطن من دمار ربما يفوق عشرات المرات ما حدث منذ انطلاق هذه الثورة المباركة.
ولعل واحد من اسباب تأزم الموقف فوق ما يمكن ان يكون من اسباب أخرى، غياب الوسيط القوى والقادر على إقناع الطرفين أو حمل أيا منهما حملاً على تجاوز الاختلاف، مما أدى لغياب الثقة واتساع شقة الخلاف ومن ثم ارتفاع وتيرة الشحن والتمترس والاستعداد المتزايد داخل الطرفين من أجل الاجهاز على الاخر.
ومن أهم تلك السيناريوهات الناشطة واخطرها هو ما بين المجلس العسكري وخلفه الدولة المندحرة وقوي الحرية والتغيير وخلفها ارادة مندفعة لا يهمها في هذا الحراك شيء غير هدف إزالة الكيزان والقضاء عليهم. وهناك ايضاً السيناريوهات الإقليمية التي بدل ان تشكل وسيطاً نزيهاً يدعم وحدة الوطن واستقراره، فإنها رمت بلا مواربة بكل ثقلها في سلة المجلس العسكري، واستمرت تغريه بالدعم السخي المادي وبفتح العلاقات الدولية وبإمكانية تجاوز الوعيد الدولي بالمقاطعة وعدم الاعتراف، وكذلك اغراءه بالدعم المالي السخي ليتجاوز المشكلات الاقتصادية الحالية للبلاد حتى يقبله الشعب، ويواصل نظاما عسكري انقلابي.
والأمر الأخطر في موقف هذه السيناريو، وهو ما تشير اليه تصرفات القائمين عليه الآن، إنهم ليسوا في قلق مما يمكن ان يطال الوطن من تدمير، كما حدث في دول أخري مثل سورية واليمن وليبيا، طالما ان تلك المعارك كانت تدور في ميادين بعيداً عنها، وطالما ان مصالحهم ستستمر في وجود نظام جديد يأتمر بأمرهم، وسيكون على استعداد ليواصل تعهدات النظام السابق اليهم.
اذن فالمشهد الوطني مممتلىء بنذر المآسي، والملعب محتشد بكثير من القنابل شديدة الانفجار اذا ما تواصل انهيار الثقة بين المكونات الوطنية المتقابلة، وغابت الحكمة، وتواصلت وتيرة الشحن، وانعدم الوسيط الوطني الفاعل.
ولعل حزب الأمة بما يتمتع به من استقلال في القرار وعدم وجود أي امتدادات بنيوية او ايدلوجية له خارج السودان، فهو الي الان يمثل الطرف الأحرص على ضرورة ان يبقى الحوار والاختلاف داخل حدود الوطن. كما أن حزب الأمة بما يقف عليه من خبرة وتجربة سابقة في الحكم، يرى كثير من المراقبين انه الأقدر على أداء أدوار مهمة في تهدئة المشهد، وهو مع إيمانه القاطع بالثورة وما حققته من نجاح، وبالرغم من وجوده عضواً فاعلاً في تحالف قوي اعلان الحرية والتغيير مع إيمانه الأكيد بكل أهداف هذا التحالف، لكن سلوكه يؤكد تقديره بأن هنالك أهمية لدور ما مطلوب أن يكون أكثر وسيطاً فاعلاً بين الطرفين، يستطيع ان يسعى مع وبالجميع نحو الوصول إلى اتفاق ينقل المشهد كله الي داخل الفضاء الوطني، وينزع عنه فتيل الفتنة ويأخذه بعيدا عن المحاور الشريرة ويهيئه الي نقلة نوعية.
ولعل موقف حزب الأمة ينبع من موقف وطني أصيل يستشعر فيه رئيسه الامام الصادق المهدي خطورة المرحلة بحكم خبرته الطويلة وحكمته المعلومة عنه، الشيء الذي دعاه أن يسعى الي استباق الوقيعة، ومحاولة السعي الي الطرفين من أجل اعادتهما الي الحوار الوطني وإعلاء الإرادة الوطنية على كل الارادات.
وفي الطريق إلى ذلك، فانه يحاول دفق المزيد من الماء على المشهد الملتهب. وهذا ليس مستغرباً من حزب الأمة الذي ظل رئيسه دائماً يميل للحلول المتفاوض عليها تجاربه الطويلة في الحوار أثناء معارضاته لكل الانظمة الانقلابية بعد الاستقلال، وهو يعلم أن الرهان على الحال المشحون الان ربما قد يحقق مكاسب كبيرة لكل من يستثمر فيه، وكان يمكن ان يندفع هو مع المندفعين والغالين في هذا الاتجاه، لكنه ايضا يعلم أن النار اذا اشتعلت ستحرق الجميع ويخشي ان يصبح الصباح ولا يجد الجميع وطناً يتصارعون او حتي نتنافسون فيه..