قال تعالى: (وَأَلْقَىٰ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) صدق الله العظيم النحل (15).
أحبتي القراء نُبحر سوياً، ونغوص في أعماق الآيه (66) من سورة الكهف علنا نستخرج الدرر المكنونة والعبر المستقاة منها؛ لكي نتعلم، وننهل المزيد، ونتدبر، ونتأمل، ونتفكر في أنفسنا وما حولنا.
قال تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191).
إذا كنت تملك عيناً متمعنة تتجاوز سطحية القراءة لما حولك إلى عمق معاني الحياة وطياتها التي لا تنبسط إلا لعقل راجح، وعين بصيرة، لا مبصرة فقط، انك تستطيع أن تفرد شراع الخيال، وتطلق عنان التأمل فيما حولك. فإذا أخذنا الجبال على سبيل المثال، وأمعنا النظر إليها ملياً، وسألنا أنفسنا: ماذا تعلمنا منها؟ فأنا اقول علمتني.
إن وقفت أمامها تضعك أمام خيارين لا ثالث لهما: أما أن ترمق عيناك القمة أو السفح، ولندرك قبل الاختيار أن الصواعق تضرب القمم. أما السفوح، ففيها الحفر، وفيها الوعر، والمياه الراكدة المتسخة.. وأنت كذلك عزيزي القارئ كأني أسمع همسك يقول: بأني اختار القمم لمشوار حياتي رغم الصعاب.. رغم مشقة الصعود، ورغم الصواعق.. اختر التحدي للعيش الكريم.
كما قال شاعر الحرية أبو القاسم الشابي:
ومن لا يحب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر
الجبال رمز للعزة والصمود المتسم بالشموخ والكبرياء، رغم ضراوة الرياح وزمجرتها وغزارة الأمطار، وقوتها ستظل ثابتة، كأن شيئاً لم يحدث. وهذا درس لنا؛ لنظل صامدين بذاك الشموخ أمام تقلبات الحياة كالنسور القوية التي تأبى الذل والهوان. كما أردف قائلاً نفس الشاعر نفسه في موضع آخر:
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
سبحان الله تعلمنا من الجبال التضاد.. القوة والرقة والتسامح على الرغم من قوتها وصلابتها إلا أنها تسمح لقطرات الماء الرقيقه بنحتها متكيفة مع ذلك النحت، مدركة بأنه مهما طال النحت أم قصر هنالك أشياء ستظل ثابته، لن تتغير لندرك بأننا في هذه الحياة نتكيف ونتأقلم مع بعض الظروف والشخصيات، ولكن لا بد أن تكون لنا مبادئ ثابتة مهما حدث لا تتغير. تعلمت أن وجود الجبال مهم جداً لحماية الأرض من التصدعات، والزلازل لتكون القواعد الراسخة لنا لنعلم بأن لكل شئ قاعدة في هذه الحياة. وكذلك ما نراه منها لا يمثل إلا جزءاً بسيط، أما الجزء الأكبر منها فهو مغمور في الأرض… لنتيقن بأن حال بعض البشر كحالها ما يظهروه هو الجزء البسيط، وما خفي أعظم… كما أن القسوة تصنع المعجزات أحياناً، ومن ثنايا الألم يبرق الأمل، ألا ترى في الجبال تنبت الأزهار والورود الجميلة ذات الألوان الخلابة والعطر الشذي الذي يعبق المكان والزمان على حد سواء.
ولنتعلم من الجبال أنه حين يكون لديك مخزون وافر من الإيمان والمعرفة والعزيمة، فإنك ستقف شامخاً بين البشر بابداعك وإنجازك ولن تهزك رياح الحقد والحسد، فالجبال سفحها واسع متين، وقمتها عالية لا رياح تهز ثباتها.
كما قال الشاعر الأندلسي العظيم (ابن خفاجة) في وصف الجبل:
ارعن طماح الذؤابة باذخ يطاول أعنان السماء بغارب.
يسد مهب الريح من كل وجهة ويزحم ليلا شهبه بالمناكب
وله في خلقه شؤون، سبحان الله، ومن الجبال تعلمت ما تمتلكه ولو كان بسيطاً فيه قوة تجعلك تكوّن بصمة خاصة بشخصيتك لا تتكرر، فالجبال رمال وحجارة صغيرة. ولكل جبل شكله المختلف.
كما تعلمت منها أيضا:
إن المظهر خدعة. النظرة الأولى؛ فلا تحكم على الفرد من مظهره، فرب مظهر يخفي خواءً، ورب آخر باطنه لا يُقدر بثمن لغناه، فالجبال قد تحتضن بين ثناياها أغلى المعادن.. فهي تمد يد المساعدة إلى الجميع، فالنحل منها بيوت وتقدم لنا الذهب.. ويعبرها الغيث كواد منسكب فلنكن عطاءً ثراً، وللخير سباقين. فكن عزيزي القارئ المتأمل كالجبل ثباتاً، ولا ننسى عندما مدحت وغنت عزة السودان مادحة إخوانها ( اخواني إخوان البنات العلموا الجبل الثبات) ورحمة ومأوي ونفعاً. فالجبال يأوي إليها ل المحارب.. وكلنا يذكر قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نادى وقال: يا ساري الجبل!. والناسك المتعبد والرائح والغادي، على الرغم من تباين حاجاتهم، إلا أنه يأوي إليه الجميع على اختلاف غاياتهم، فعلنا نمتلك مفتاح المعاملة، ونفك شفرة كل عقل وحاجة..
الا كم كنت ملجأ قاتل، وموطن أواهٍ، وتبتل تائب.
وتلك هي أهمية وظيفة الجبال، وأهمية التدبر في دلالات الآية (191) من سورة آل عمران.
مسقط – سلطنة عمان