تبنّى النجم السعودي ناصر القصبي في مسلسل العاصوف وجهتي نظر ثقافيّة وفنيّة، بفضل شعبيته وشجاعته وتدبّره الدعم الكبير للعمل. تظهر وجهة النظر الثقافيّة عنده في رفع سقف الدراما السعودية من صوب الموضوعات والتناول، حيث تأتي سرديّة العاصوف في أزمنة الصدام والتحوّلات الكبرى في الأيديولوجيا والسياسة.
أما وجهة النظر الفنيّة فتنقسم أولاً إلى تضخيم
الإنتاج الفني للمسلسل والقفز فوق المعهود للأعمال الخليجية، وثانياً إلى الاشتغال
على دوره في شخصية خالد الطيّان، التي وإن بدأت في الجزء الأول محاصرة بالتبسيط
الناجم عن الاستهلال للأجزاء والقصص، والبسط في المشهديات والأحداث، إلاّ أنه
طورها بشكل لافت في الجزء الثاني، واستطاع أنْ يُفرد للشخصية مساحة كبيرة تتسع
لأفكارها وتشتتها، ومفارقة نمطيتها إلى تعدد أمزجتها، وتداول أفعالها وردود
أفعالها.
كما
هو واضح فقد أشغل العاصوف الناس، بكل فئاتهم، وبشكل لم يسبق له مثيل في الدراما
السعودية وحتى الخليجية، ونافس –مشكورًا – بالتداول والحديث تلكم الزوابع السياسية
التي لا تهدأ في المنطقة. وتباين كثير من الآراء حول العمل، لكن ما يهمني منها هنا
هي آراء بعض المثقفين والنقاد والإعلاميين المشغولين بالفن، خاصة تلك الآراء التي
رأتْ بأن العاصوف لم يقدم الحالة العامة للمجتمع في ذلك الزمن، وعجز عن سبر عديد من
مستجداته التي كانت تشبه الظواهر في حينها.
يبدو
أنه كان بإمكان السيناريو أنْ يصطنع كثيراً من المشاهد المدهشة والعميقة الرامية
لبعض تلك الظواهر/ المستجدات، وربما كانت ستكون في مسار ناعم لا يأتي فرضًا ولا
عرضًا على أحداث المسلسل و«قصة عائلته» التي أراها رائعة وجريئة من ناحية فنيّة
صرفة.
القصص
التاريخية ناقصة أصلاً، ويستحيل اكتمالها، وإحدى مهام الدراما التي تتناول هذه
القصص هي تعبئة تلك الفراغات بالضوء والمفاجأة، وطرح وجهة نظر، ومخيّلة غير
متوقعة. وتلك المهمة حسب إدوارد بوند هي التي تفتح فجوة للمعنى ليستطيع المتلقي أن
يرى ويحكم بنفسه، لا أنْ يقبل القصص باعتبارها حوادث طبيعية.
المطالبة
بسرديّة تتسق مع تذكّر ذلك العصر وتتماشى مع إعادة تجسيده، هي مطالبة مضادة
للابتكار ومنحازة للسُلطات، المتمثلة بسلطة التدوين، سلطة المجتمع، سلطة
الأيديولوجيا، سلطة النوستالجيا، وصولاً لسلطة الرأي الثقافي المكرّس تجاه تلك
الحوادث والحقب التي يتناولها المسلسل.
يُحسب للعاصوف في جزئه الثاني أنه تناول حقبة
السبعينيات عبر وجهة نظر خاصة، ومن منظور لا يتوقعه (الجمهور الثقافي) من خلال
ذاكرته، بل استثمر بقعة صغيرة تُمثلها «عائلة الطيّان»، وكثّف علاقاتها عبر مجموعة
من القصص واليوميات، بحيث تأتيها التغيّرات والتحوّلات من «حقل الأيدلوجيا»
الخارجي باعتباره مصدر تغيّر القيم والأفكار والسياقات، وإنْ قصّر قليلاً في إجلاء
الحقل الآخر، الناتج من ارتفاع الدخل النفطي والمُسمى بـ«حقل الطفرة»، بوصفه المصدر
الرئيس والعام لازدهار العائلة، وتغيّرها في عديد من الجوانب الاجتماعية، فلم
نشاهد انبعاث الطفرة رغم مشاهدتنا لنتائجها في القصة بشكل واضح، مثل الانتقال
للفلل، والبعثات الدراسية، وسفر السياحة للخارج، وسهولة إيجاد عمل، وغيرها.
إنّ
الاشتغال على عائلة سعودية ذات خصوصية حتى داخل المجتمع السعودي صاحب الاختلافات
بين أقاليمه المتعددة من حيث اللهجة واللباس والتقاليد والطقس والمعمار، وغيرها،
هو اشتغال ذكي وجريء، ويخدم نظرية الفن الكبرى القائمة على أنّ العمل الفني وجهة
نظر فلسفية للفنان بحسب موضوع الفن، حتى لو كان هذا التنظير غير مدروس أو متعمد من
قبل التأليف والإخراج للعاصوف، إلاّ أن جوهر الدراما هو أفكار صانعيها. ولعل
الذكاء والجرأة في جعل القصة تدور حول هذه العائلة دون التوسع، تكمنان في تكثيف
أبعاد الشخصيات من خلال الاستحواذ على حياة القصة، إضافة لتعقيد الأحداث وتطورها
في مزراب يسمح بتدفق العمل والقصة لأجزاء قادمة، وهو ما ينتج الفكرة الأكثر
تعقيدًا في الدراما والسينما على حدٍ سواء: تقدّم الشخصيات في السنّ.
ويأتي
التعقيد هنا بوجوب إضافة سمات جديدة وجبرية لروح وتفكير الشخصية عند تقدّمها في
السن، غير سماتها المعهودة في مسار القصة والدراما، حيث تأتي تلك الإضافات تحت بند
(الزمن والخبرة والتوقّع)، وربما هنا موطن الجرأة التي تحدثتُ عنها، فمع هذا
المنحنى أمام المسلسل في سبيل استمراره كثير من المنحنيات التي يجب الوقوف عندها
والاشتغال إما على تحسينها، أو على اصطناعها لتأمين تفوق العمل، وإتقان لعبة
التشويق، القائمة كأهم ركائز المسلسلات ذات الأجزاء.
لا
يمكن الحديث حول عمل درامي دون التطرق لمادته وواجهته: التمثيل. ولعل الشكل العام
لأدائيات العاصوف، تأتي في مستوى العادي للأسف، لولا بعض الامتيازات القليلة التي
حملت على عاتقها توزان الأداء الكلي على الشاشة، فبجانب ناصر القصبي الذي يرتكز
أمام المشاهد على ميراثه ونجوميته، قدّم عبدالإله السناني تحفة فنيّة بأدائيته دور
«محسن الطيّان» وقد يعود هذا لنضوجه الأدائي كممثل إضافة لثقافته التي يبدو أنها
ساعدته كثيرًا في قراءة شخصيته واستيعاب مساراتها ونفسيّاتها، ما جعله يستحدث لها
منصّة باهرة في قصة المسلسل.
كما
قدّمت الفنانة السعودية ليلى السلمان دورًا مهيبًا كأمٍ للعائلة، فقد خلقت كاريزما
مميزة، حافظت عليها بتلقائيات واعية. وأعتقدُ أنها كانت لتزدهر أكثر لو كُثّف
حضورها ليصل إلى الجوّانيات الإنسانية، التي قد تظهر في ارتباطها بشخصية خارج سلّم
الولادة، لتزيد ملامحها وتتصادم بعض رغباتها، وعدم الاكتفاء بوجه الأمومة الوحيد،
والاشتباك المتكرر ذو الموقف الثابت في مشاكل الأبناء.
الفنان
يعقوب الفرحان قدّم شخصية جهيمان في العاصوف، ورغم قصر الأداء لهذه الشخصية
(المحورية)، إلاّ أنه قدّمها بشكل مذهل ولافت يتسق مع حمولاتها، مستفيدًا من
تجربته المسرحية المميزة ليضفي على الشخصية بعض اللمسات المعهودة في المسرح أكثر
من التلفزيون، بيد أنها ناسبت الدور كثيرًا، فكأنّه أخذ من المبالغة الفادحة التي
اتسمت بها أفكار جهيمان نفسه، بعض المبالغات البسيطة في الأداء، التي جعلتْ
الشخصية تتجلى أكثر، وتُظهر من خلال (عيونها) كثيراً من الأسئلة والأفكار والمشاعر
غير المفهومة، دون أن يتكلم بكلمة واحدة. وفي مثل هذا نُلاحظ اشتغالات الممثل
والمخرج بعيدًا عن نص المؤلف.
رأينا
في المسلسل هذا العام عديداً من الوجوه الشابة، الذين كان لبعضهم تجارب مسرحية،
ولآخرين تجارب في الأفلام القصيرة، لكنّ ظهورهم في العاصوف مهم بالنسبة للدراما
السعودية، حيث يسهّل مثل هذا العمل معرفتهم ووجودهم في أعمال درامية أخرى، ما يتيح
إثراء ساحة التمثيل، وظهور نجوم جدد. كما أن مشاركتهم مهمة بالنسبة إليهم فيما يخص
خدمة الموهبة، والتحامهم بالطواقم المحترفة من ممثلين ومخرجين وفنيين، ومعرفة
أسرار الحِرفة وأهمية الالتزام فيها.
أخيرًا، أتمنى ألا تطول أجزاء المسلسل، وألا تترهل قصته وفكرته الرئيسة بسبب الطلب في الاستمرار، وسهولة الفرصة الإنتاجية، وأن يتوقف الفنان الكبير ناصر القصبي عند نقطة قوية، سواء في الجزء الثالث أو الرابع. فلا يزال العمل يقدم نفسه كحالة استثنائية جميلة، بوصفه تجربة كبيرة وجديدة في ذات الوقت، وسيكون منعطفًا مهمًا في الدراما السعودية لا شك، وسيؤثر في الأعمال المستقبلية، خصوصًا أنّ شروط الجمهور السعودي عالية حتى قبل العاصوف، فما بالكم بعده، حيث كانت غالبية المسلسلات المطروحة هي مادة سخريته، وذلك عائد لارتقاء ذائقته، ومتابعته واطلاعه الواضح على تجربة المسلسلات والسينما العالميتين.
____
مقال للأديب والناقد السعودي صالح زمانان نشر في مجلة “اليمامة”