لا شك أن أهلنا الأقباط لهم تأثيرهم في كثيرٍ من نواحي الحياة في السودان ، السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، وفي هذه المساحة أود الخوض في جانب يتعلق بفترة محددة من تاريخ فن الغِناء في السودان شكلت فيها الفتاة القبطية حضوراً في وجدان شعراء ذلك الضرب من الغناء الذي أصطلح عليه بالحقيبة ، فقد هام بهن من هام من الشعراء ، ونظموا فيهن شعراً رصيناً وجميل ، تغنى به العديد من مغنيي تلك الحقبة ، وظلت تتداوله الأجيال حتى يومنا هذا ، لم يفقد عذوبته وجماله رغم فيروس الحداثة الذي امتد للكلمة واللحن والمُّغني !
الشعراء الذين هاموا ببنات القِبط ، كانوا يدركون أن وصول حبهم ذاك لنهايتِهِ المنطقية ضرب من المستحيل ، لموانع معروفة لهم ، فاكتفوا بعكس أحاسيسهم ومشاعرهم شعراً رقيقاً ظلت تتناقله حناجر المغنيين في الحفلات و الأعراس والمناسبات المختلفة ، فسحر بنات القبط لا يُقاوم :
يصرعن ذا اللُّبِّ حتى لا حراكَ بِهِ
و هُنَّ أضعفُ خلق اللهِ إنسـانا
أُدرك أن هنالك العديد من الأساتذة الأجلاء ، والمهتمين بالحقيبة والفن الشعبي عموماً في هذا المنبر ،
وغيرهم كُثر . كما أن هنالك العديد من الذين هاموا ببنات القبط حباً سوف يرفدون هذه المساحة بذكرياتهم التي تفيض بما برح بهم من لواعج عصفت بقلوبهم ذات زمان ، خاصة وأنا أعرف في هذا المنبر من ساكن أولئك القوم السمحين في المسالمة أو بقربهم في حي العرب ، وبعض أحياء ام دُر ، ووسط الخرطوم ، بل و في بعض مدن السودان الأخرى.
عبيد عبدالرحمن ، ذلك الشاعر المرهف ، الذي رفد الحقيبة بالعديد من القصائد
الرائعة ، وقد تميز شعره بحسن السبك ، وجمال المعاني ، فعندما دخل أول تجاربه العاطفية ، اتحفنا بقصيدته الرائعة (جاهِل وديع مغرور) ، فقد كانت الحبيبة صغيرة على الحب ، وقلب شاعرنا ما زال بكراً :
جاهِل وديع مغرور
في أحلام صِباهو
نايم خلي ومسرور
ما عِرف الهوى
أما المرة الثانية ، فقد كان مصرع لبهِ في حي المسالمة ، كانت ذات حُسنٍ وجمال ،وكان بينهما حباً حقيقياً ، ولكن أهلها تداركوا الأمر قبل أن تقع الفأس في الرأس ،
فسارعوا بعقد قرانها على أحد أقربائها . ولما كان شاعرنا على علاقة طيبة بأهلها
وبينهم العديد من أصدقائه ، فقد أُرسِلت له بطاقة دعوة لحضور حفل الإكليل في
الكنيسة .
لبى شاعرنا الدعوة ومعه من أصدقائه ، سيد عبدالعزيز ، وخالد ادم بن الخياط، فوقف وهو يشهد مصرع حبه وعندما غادر الحفل كان يردد :
أفكِّر فيهو واتأمـَّل
أراهو اتجلى واتجمـَّل
هلالي الهلَّ واتكمـَّل
تفاصيل قولي والمجمل
سأصبِر ياخي إيه اعمل
إذا قلب الفتى اتحمـَّل
مُصايب الدهرِ وا لامو
أرى الصبر الجميل اجمل
حديثي ودمعي يتسلسل
فصول في روايه تتمثل
أقيف في مواقف استبسل
وعن رؤيا الحبيب حالاً
أبين في مواقف اتوسل
هواك في جسمي اتخلل
مجاري الدم إذا اتحلل
وقيع لرضاهو اتذلل
وما هماهو يا سيدي
دا واحِد اصلو بتدلل
ترك افكاري تتضلل
وعُذرو البيهو اتعلل
أما شرع الهوى حلل
لقــــانا نهــار
ولا بالليل إذا أليل
صريح قانون هواك خول
هلاكي وقلبي ما اتحول
حقيقه و ليس تتأول
صريع لحظات سيوف لحظك
وحالي ان شُفتو تتهول
تذكر عهدنا الأول
صحي الأيام بتتدول
قريب يوم داك ما طول
مضت أيا ويا حليله
بِقت احلام وتتأول
يبدوا ان الحب قد تمكن من شاعرنا عبيد تماماً ، وهي ذات الشخصية التي الهمته القصيدة السابقة ، فأردفها بواحدة من روائع قصائده أيضاً ،
وهي التي قال فيها :
آه من جور زماني وما بي من نوايب
سهران ليلي طايل ، حارس بدرِ غايب
في آمالي سابِح ، ومن آمالي راسب
إنت الساهي لاهي وماك الحاسي حاسِب
هل يمكن تجامل ، يا الحاذِر محاسب
ترحم بي صدودك ، بالقدر المناسِـب
كم قاسيت شدايد ، وكم عانيت متاعِب
شدَّد عزمي حبك ، لصراع المصاعِب
لاشي غير نفورك، راهِب ليَّ راعِب
قاتِل متجاهِل ، يا مـا إنت لاعِـب
يا ظبي المسالمة السارِح عقلي غايب
سالِب نوم عيوني وسايب قلبي دايب
ذاهِب للدراسة ، وبين أترابو آيب
سافِر بدرو سادِل ليلين من ذوائب
يقولون إن قصيدة (آه من جور زماني) سابقة لقصيدة (أفكر فيهُ واتأمل)
وذلك يمكن معرفته من الشطرة التي في القصيدة الأولى ، والتي تشير إلى أن المحبوبة ما زالت طالبة في المدرسة :
ذاهِب للدراسة , بين أترابو آيب
أما في قصيدة ( افكر فيهُ واتأمل ) فقد أصبحت المحبوبة عروساً ، ويبدو ذلك منطقياً.
ما زلت واقفاً في محطة المرهف عبيد عبدالرحمن ، وهذه احدى روائعه التي
التي تحكي عن أصالة ملكته الشعرية ، وجمال مفرداته ، التي تجعل شعره
يأتي بصورة مبدعة لا مثيل لها. فقد سمع عبيد صديقه سيد عبد العزيز يدندن
بقصيدة مطلعها (الجِنان في الدنيا والليالي الدُّر .. أم دي ليلة وجمعت بين شموس ام دُر)
فجاراها عبيد بواحدة من أروع القصائد في تاريخ الحقيبة ، يعكس فيها ما عانى
من حبه لتلك الظبية ، ويبدوا انه قد مرَّ عام على مصرع حبه يوم الإكليل :
زاد ازاي يا صاحي واعتراني نحول
طرفي دامِع وصاحي بالسهاد مكحول
حال عليَّ الحول، والموانِع بيني وبين حبيبي تحول
قلبي قال ما بحول
صبري ضاع يا صاحي ، وخصبي صـار ممحول
العلي ما بزول ، والأنين يا بدري والحنين مبذول
الجِسِم مهزول، مُنيتي وآماليى ونومي في عيون زول
لا قُصُر لا طول،ربعه قامتو وحُسنو وصفو شرحو يطول
من دلال مسطول، كم يواعِد ويَمْطُل والمطَل ممطول
القوام معدول، والوريد في الدمية والأثيث مســدول
الكِتيف مهدول، بعضو نام في بعضو تقول حرير مجدول
كل شيء مقبول، ان تجور او ترحم في رِضاك مجبول
بي هواك مسبول، وما عليْ في اللائم لو ضرب لِي طبول
حُسنو حار بي عُقول، والوصول للبدرِ ياخي غير معقول
يا نسيم مرسول، لي حبيبي لعلك مِنو واجِد ســول
أجثو ليهو مثول، عني انظر حُسنو واقبِّل المعسول
في عيد (شم النسيم) ، وقد خرج الناس للحدائق يحتفلون دون تفرقة أو تمييز . ذهب شاعرنا سيد عبدالعزيز إلى حدائق المقرن بالخرطوم ، فرأى إحدى حفيدات
المقوقس وهي آية من الجمال ، كانت تمسك بغصنٍ ينتهي بزهرة ازدادت ألقاً وجمالاً وانتشر عطرها الفواح احتفاءً بالأنامل التي كانت تمسك بالغصن ، وقف سيد عبدالعزيز مشدوداً متأملاً في تلك اللوحة التي أمامه ، فكان مولد القصيدة التي عُرفت باسم (عيد الصليب)
القصيدة مناجاة بين من شاهَدَ والمشهد!
يا مداعِب الغصن الرطيب
في بنانك ازدهت الزهور
زادت جمال ونضار وطيب
يا المنظرك للعين يطيب
تبدِّل الظلمات بنور
ان شافك المرضان يطيب
تعجبني والشي العجيب
هادي وأليف وماك نفور
بي عِفَّتك صُنت السفور
والحُسن والأصل النجيب
زادت جمال ونضار وطيب
الروضه في موقِع خصيب
حضنوها واتلاقو النهور
ترى فيها انواع الزهور
من كل لون أخذت نصيب
يانِع ثمارها ونص طيب
أشبه بربات الخدور
اتبرَّجن في يوم حضور
زادن جمال ونضار وطيب
أنا وانت في الروض يا حبيب
راق النسيم وحِلى المرور
بِقى أحلى من ساعة السرور
وأدقَّ من فهم اللبيب
في الروضة غنى العندليب
وردد أهازيج الطيور
ترتيل أناشيد الحبور
فتياتنا يوم عيد الصليب
دنت الثُريا بِقت قريب
بين السلوك في تاني دور
في ثانيه كم سطعت بدور
وأهِلَّه كان نوعُن غريب
شي يُنعِش الروح في الأديب
ويَحي روح مَيْت الشعور
زادت جمال ونضار وطيب