لا شك أن الوضع السياسي في السودان يمر بمرحلة معقدة للغاية، وأن تلك الحالة مرشحة لمزيد من التعقيد بإنسداد الرؤي السياسية للحل. فالهجوم الغادر علي المعتصمين العزل أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية وما أسفر عنه من إهدار لأرواح المعتصمين العزل دون جريرة، والقسوة المفرطة وغير المبررة التي شاهدها العالم أجمع، والجراحات الغائرة التي نخرت آثارها في قلوبنا جميعاً، وحالة الإحتقان السياسي والإنسداد الفكري الذي فرضه المجلس العسكري بإدخاله البلاد في أظلم الأنفاق لا يتيح إلا القليل من الخيارات المتاحة لنا لإعادة الثورة لمسارها وإنتزاع مساحة ضئيلة من الحلول السياسية منطقاً وليس ضعفاً
عليه وتأسيساً علي ذلك ، وبإفتقارنا إلا لوسيلة واحدة للضغط علي الطرف الآخر، المجلس العسكري، وإن كنت أعتقد بأن المجلس العسكري لم يكن أصلاً طرفاً أصيلاً في الثورة لنتفاوض معه ، ولكن الظرف الدقيق الذي مرت به الثورة وإفتقارها لقوة فاعلة غير حناجر الثوار تسندها، ففي لحظة إنهيار النظام البائد لم يكن هناك بديل للقوات المسلحة كقوة لها تفويض دستوري وقانوني يخولها بالإضطلاع بحماية الثورة والبلاد، وكان من المؤمل أن تضطلع القوات المسلحة بهذا الدور بإعلان صريح بإنحيازها لإرادة الشعب وتطلعاته وتأكيدها بأنها ستكون حارساً لثورته دون أدني وصاية منها أو رغبه في السلطة التي أنتزعت بدماء وتضحيات الثوار والشعب السوداني، ولكن وللأسف فقد أخذت تلك القوات المسلحة وربيبة النظام البائد، مليشيا الجنجويد، زمام القرار بتنصيب نفسها شريكاً في الثورة وطرفاً للتفاوض ولكن سرعان ما تبينت نيتها بمحاولتها إختطاف الثورة بأسلوب تفاوضي ملتو وماكر مكنت معه النظام البائد ومليشيا الجنجويد وخلايا النظام النائمة وأمنه الشعبي والطلابي وخلايا الظل من النيل من الثورة والثوار وإستباحة القتل والقسوة المفرطة ولأكثر من مرة إمتداداً لممارسات النظام البائد بل وبصورة أسوأ
وبما أن للوقت أهمية في تحصين مكتسبات الثورة دون تفريط، بل تأسيساً علي المباديء الوطنية التي أرستها التضحيات الجسام والمقدرة للثوار، فإنه يتعين علينا الوقوف بشموخ والنهوض والسعي بقوة لتحقيق تلك الغاية. فعليه أعتقد أن ميزان القوة مايزال يرجح كفة قوي الحرية والتغيير والثورة، ويقيني أن الإنتصار في آخر المطاف سيكون لا محال من نصيب الشعب السوداني الصابر برغم ما أعلنه المجلس العسكري من موقف يفتقر للحكمة، فهذا الموقف لن يصمد كثيراً، وإن تغييراً سياسياً سيحدث لإدارة الدفة لمصلحة الثورة، فداخلياً ما يزال لدينا سلاح الضغط الشعبي بفعل العصيان المدني والإضراب السياسي العام والتصعيد المزلزل، وخارجياً بالتواصل مع المجتمع الدولي وآلياته الفاعلة المتمثّلة في مجلس السلم والأمن الإفريقي بالإتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، ومجموعة الترويكا، والولايات المتحدة ( حتي وإنه لم يتضح حتي الأن موقف البيت الأبيض بعد، إلا من تصريح وحيد عبر تويتر لمستشار الأمن القومي للبيت الأبيض بولتن ينادي فيه بضرورة تسليم الحكم لحكومة مدنية) والتي نأمل أن ترتقي للمواقف القوية للكونغرس ووزيري الخارجية والخزانة؛ وكذا الضغوط التي يمكن أن تمارسها الولايات المتحدة علي دول إقليمية للضغط علي المجلس العسكري. تلك الضغوط السياسية والتلويح بتحريك إجراءات ضد المجلس العسكري من شأنها إحداث إختراق إيجابي يَصْب في مصلحة الثورة. فإنه وبرغم عدم تمكن مجلس الأمن من التوافق علي بيان بشأن الوضع في السودان، فقد كان ذلك أمراً متوقعاً، فمن جهة إستبقت روسيا الجلسة الخاصة لمجلس الأمن حول السودان بتأييدها لقرارات المجلس العسكري، ومن جهة آخري فإن رفض الصين الإنضمام للإجماع حول الوضع في السودان ينبع من مصالحها مع المجلس العسكري. وهناك بعض الأسباب التي يمكن الإشارة إليها ربما تعضد هذا المنحي
⁃ إن المجلس العسكري ببيانه الذي أنهي بموجبه التفاوض قد وضع نفسه في مأزق سياسي كبير. أمام نفسه أولاً، والشعب السوداني والمجتمع الدولي ثانياً، ولن يلبث أن يبحث هذا المجلس سراً للخروج من ذلك الموقف التكتيكي.
⁃ إن ميزان القوة الذي يعتمد عليه المجلس العسكري بإمتلاك اليد العليا في التفاوض قد إختلت وبشكل كبير بسبب ما أقدمت عليه مليشيا الجنجويد من خطوة غير محسوبة بهجومها الغادر وقتل وترويع المعتصمين وجرح المئات منهم وممارسة الإغتصاب وهي ذات الأسلحة التي إستخدمتها هذه المليشيا المجرمه و الدخيلة علي أعراف السودانيين، في دارفور، وهي التي كونت لخدمة تلك الغاية بشكل أساسي، وحماية الرئيس المخلوع بعد إنفضاض سامر الإسلاميين من حوله بعد تفرده بالسلطة، وليس لدي ذلك المجلس أي خط رجعة فيما إغترفت شريكته في محاولة إغتصاب السلطة، فقد أحيت تلك الجريمة الشنيعة في أذهان السودانيين المرارات والحرب والدمار والقتل في دارفور.
⁃ إن كفة ميزان القوة مالت وبشدة وبسرعة لمصلحة قوي الحرية والتغيير فتحول ضعفها التفاوضي إلي قوة يسندها جموع الشعب السوداني كافة، والمجتمع الدولي والهيئات الدولية والضمير العالمي.
⁃ ففي هذا الوقت سيبحث المجلس العسكري لطوق نجاة لإنقاذه من المصير المظلم الذي وضع نفسه فيه، وسيلتقط ذلك الطوق حال مده له خوفاً من الغرق الذي لا محال منه.
⁃ هذا الوضع الخطير والإنزلاق نحو الهاوية لن يصيب المجلس العسكري فقط بل المؤسسة العسكرية وصلب القوات المسلحة وهي الكيان الذي يجد الإحترام من الشعب السوداني لما كان يشهد لها بالكفاءة القتالية والوطنية، وإن كانت تلك القوات تظل بحاجة ملحة لإعادة بناء علي ما أسست عليه من قيم ومباديء لإزالة ما لحق بها من إستقطاب حاد وتجنيد ممنهج من قبل الإسلاميين في عهد الإنقاذ، وذلك حديث آخر.
⁃ علي قوي الحرية والتغيير لعب أوراقها بعناية وبدقة، وعليها وضع شروطها بإكمال الإتفاق دون تفاوض فعلي، بل بتقديم صفقة (A firm deal, the TMC should take it or leave it ) وذلك هو الحد الأدني الذي لا يقبل الشعب السوداني بغيره، ويتضمن تشكيل معد وتسميات لشاغلي كل هياكل السلطة الثلاث بما فيها المجلس السيادي دون أي مجال للحوار أو التفاوض، وليكن ذلك عبر طرف ثالث يعكس إرادة الشعب السوداني. (As a facilitator ) فهناك ما تزال في تقديري مساحة وإن بقيت محدود، لإزالة الإحتقان السياسي في البلاد، ومنعها من الإنزلاق نحو الفوضي المدمرة.
وتلك المساحة تتمثل في مخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة الذي عبر في بيان سابق عن إنشغاله وقلقه بشأن ما صدر من المجلس العسكري. برسالة قوية وواضحة ممهورة بإرادة الشعب السوداني بغية ممارسة الضغط الشعبي السوداني و الدولي علي مجلس الأمن والأمم المتحدة، وللمجلس وسائله وألياته وإجراءاته العاجلة دون مساس بسيادة البلاد، ومن بينها التلويح بضغوط أو إجراءات ضد المجلس العسكري لتسليم السلطة وبشكل فوري ودون شروط ووفق قيد زمني مضروب، وبهذا يمكن وضع السيناريوهات الممكنة بإضطلاع الأمين العام بدور فاعل للحد من الإنهيار الكامل للتحول الديموقراطي والتمهيد لتكوين حكومة مدنية تلبية لتطلعات وطموحات الشعب السوداني في الحكم المدني والحريّة والديموقراطية. وبالرجوع لتصريح ممثل الأمين العام الذي أدلي به بعد الجلسة الخاصة بشأن السودان اليوم فإنه مايزال هناك فرصة للعودة للمسار والتحول الديموقراطي
هذا بجانب السعي الجاد لدي الإتحاد الأفريقي للمضي قدماً نحو إعلان بدء الخطوات بتعليق عضوية السودان في الإتحاد بإعمال البند السابع وذلك لممارسة مزيد من الضغوط علي المحلس للرضوخ لمطالب الشعب السودان
ومن شأن تلك الإتصالات والإجراءات المقترحة إجبار المجلس العسكري علي قبول التحول المدني في الحكم دون فرض أي وصاية علي إرادة الشعب التي تمثلها قوي الحرية والتغيير وجموع الثوار في الشارع وذلك بتطبيق الإتفاق الذي تم إعتماده لمستويات الحكم المختلفة بما فيها المجلس السيادي برمزيه عسكرية في تكوينه مع مرجعية تشريعية كاملة في المصادقة علي القرارات المصيرية والهامة بعد التداول حولها وإقرارها بالتصويت داخل المجلس السيادي للمجلس التشريعي ( وليس بالأغلبية الميكانيكية كما كان يجري علي عهد الإنقاذ) بثلثيه التي تعود لقوي الحرية والتغيير ودون أي وصايا من المجلس العسكري الذي سينصرف لمهامه الدستورية المتمثلة في حماية البلاد وتأمين إستقرارها وحماية الثورة وتأمينها من أي إختراق أمني آخر محتمل من أي جهة كانت.