منذ أول يوم تسلم فيه سلطة السودان، افتقد المجلس العسكري زمام المبادرة، وصار رد فعل على كل حركة في الشارع، وفي أحوال كثيرة مناور يسعى لامتصاص غضب المعتصمين، ومشلول أمام انضباط قوى المعارضة، إلى أن سالت الدماء أمام مقر قيادة الجيش قبل أسبوع، فعادت البلاد إلى الأيام الأخيرة قبل عزل الرئيس البشير.
وحال المجلس العسكري اليوم، لا يسمح له بمزيد من المناورة، وقبل ذلك تمتع بوقت كاف نسبياً لترتيب مهمة الانتقال السياسي. ولكن، مضت ستة أسابيع بحركة بطيئة جداً، ولم ينجز فيها بقدر ما أنجزته المعارضة بتوسيع حلفها، وإيصال صوتها إلى مسافات أبعد من حدود السودان.
أضاع المجلس فرصاً عدة في أول شهر، وكانت المعارضة أكثر وضوحاً في خطابها، وتمتعت بمهارة عالية في تأكيد نهجها السلمي، وتذكير الحاكم الجديد بوعود اليوم الأول من حكمه.
خصوم المجلس في الشارع يريدون حكومة مدنية، ويصرون على المسارعة في إتمام هذا المطلب، ويجيبهم بالموافقة، واضعاً شرطين يصعب توافرهما حالياً؛ أن “اتفقوا جميعاً على رأي واحد”، و”أثبتوا للجميع أنكم تمثلون أغلبية السودان”.
المجلس العسكري، مستنداً إلى جهاز أمني ثقيل يخبر تفاصيل حياة أبناء البلاد، يعلم جيداً أن أياً من الشرطين لن يتحققا، فالظرف الحالي لا يحتمل تنظيم استفتاء شعبي على حجم “قوى الحرية والتغيير”، والجمع الواسع من المعارضة لا يمكن أن يتفق على عناوين ثابتة لأسلوب إدارة الدولة ورسم مستقبلها، سوى أن يغادر العسكر ويتولى المدنيون السلطة، وهذه المناورة فقدت صلاحيتها قبل أسبوع.
التدهور الحاصل حالياً، حاصر المجلس العسكري داخل السودان وخارجه، إذ منحت حادثة فك الاعتصام المحتجين قوة إضافية، وعاقب الاتحاد الأفريقي الدولة، وعلق عضويتها، وهدد بمعاقبة مسؤولين في المجلس. والدعم الخارجي مشروط بانتقال سلس للسلطة، والدعوات لإنجازه تتوالى سريعاً.
عاجلاً أم آجلاً، سيغادر العسكر الحكم، وتبقى المسؤولية الوطنية أن يحسبوا تكلفة كل يوم على رأس الهرم، وأن تعينه المعارضة على سلاسة الانتقال، وأن تضع في حسابها خطورة تقزيم المؤسسة العسكرية على استقرار البلاد، وإن كانت الثورة سلمية، إلا أن السلاح جاهز في المخابئ، ومن عاش على أزيز رصاصه لتحقيق مكاسبه، لن يتردد في العودة إلى رفعه مجدداً، وربما يجد القادة العسكر مخرجاً لائقاً بحصانة ضامنة من عدم الملاحقة، فذلك أكثر ما يخشاه العسكريون في دول العالم الثالث.
الحياة اللندنية