جاء العيد هذا العام وسط أنهار دماء خضّبت أرض السودان، وهي جزءٌ من شلالات انتظمت الجرحَ العربيَّ النازفَ منذ زمنٍ بعيد، يصرخُ في ضمير الإنسانية، ويتوسّدُ أشواك الشكّ والحيرة فيما إذا كان هناك أملٌ في هزيمة ضياع أُمّتنا العربية والإسلامية. لم يكن يدُر بخلد السودانيين، خصوصاً الشباب المُرابطين في ميدان القيادة العامة للقوات المسلّحة، أنّ هناك مَن يرتّب ويخطّط لانتزاع فرحة العيد التي ابتدأت ترتسم متوجة فرحة نجاح الثورة السودانية وتنحّي الرئيس السابق عمر البشير. تبدّلت الفرحة ليس حزناً فقط وإنّما غضبٌ وسخطٌ على ما ارتُكبَ من جرائمَ وصلت إلى حدّ إلقاء الجثث في النيل.
لم تنفصل هذه الأحداث التي روّعت المُواطنين عن زماننا العربي وبؤسه المُقيم، كما لم تقتصر على توقيتها الذي حدثت فيه، ولكنها امتدّت إلى أبعد من ذلك. كما أنّ هذا التوقيت يُعتبر من أكثر الأوقات التي يخوض فيها السّودانيون معركة وجودية باحثين عن حياةٍ أفضلَ تليق بإنسانيتهم. وبعد أن كان الكلّ يبكي على فلسطين ثم تفتّقت جبهات سوريا والعراق واليمن، امتدّ العويل ليشمل السودان أيضاً ليتبدّل أمنه إلى خوفٍ ورعب، وسلامه إلى حرب دائمة في معتركات صغيرة، وصبره ومسامحته إلى غضبٍ وعنفٍ ودم. وبعد طول عذاب اجتراح الوسائل الكفيلة بتحقيق الأفضل من الحلول للتعايش فقط مع هذا الواقع الأليم وإن استعصت، يبحث الآن عن زمن أكثر سعادة وأقل إيلاماً؛ زمنٍ ربما تقف عنده عجلة الحرب والنزاع وعدم التوافق بين المكوّنات السياسية المختلفة والمجلس العسكري؛ زمنٍ تتعطّل عنده آلة الخلافات الطاحنة لتمكّن الأطفال الصغار من بهجة ليومٍ أو بعض يوم؛ زمنٍ لا يُفترض أن يغادر لتحلّ محله حرب الضمائر والأخلاق. كل هذه المصائب سطّحت مفاهيم وإدراك الإنسان وجعلتها مجرّدة وخاوية، فهو مع حالة المطالبة الدائمة بالحقِّ في العيش في سلام، والتي باتت تكرِّس قواه للانهزامية والإحباط من كلِّ شيء. وهو وضعٌ يخلق شعباً غير غارق في التفاؤل وغير محكوم بالأمل وإلى متى؟ لا أحد بالضبط يدري.
عيد هذا العام تلاشى وسط أنين الانكسار، وشباب يتناوشهم الموت ويُبدل أحلامهم دماً وعنفاً. للفرحة هذه المرة طعمٌ ينغرز كنصلٍ حاد في شغاف القلوب. كيف يمكن لأمة أن تخرج على جزءٍ منها بفرحة عيدٍ وسط جلجلة الأسلحة وصرير جنازير الدبابات التي لم تترك لمشاعر الفرح من فرصة. وكيف تكون التهنئة بغير زوال الآلام التي تعتصر الأمة حدّ الموت.
هذه الهموم الصغيرة دعتني إلى ترجيح أن بيتَ المتنبي: «عيدٌ بأي حالٍ عدت يا عيد، بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد»، يتم التقاطه ذهنياً عادة في ساعات الفرح كما في ساعات الحزن. وهذا الالتقاط هو الذي جعل من بيت المتنبي افتتاحية وموشحاً يختص بتحويل الفرح إلى نكد يزخر بعبارات الحزن والأسى من عودة العيد وحال الأمة الإسلامية والعربية على ما هي عليه من خذلان وضعف وهوان وخنوع. وبفضل الاستشهاد به نرجع إلى أكثر من ألف عام إلى عصر المتنبي لتكرر الأغلبية الكاتبة القصيدة الأيقونة. يعود الترديد كما الأهزوجة وهو يجهل أو يغض الطرف عن الظروف التي قيل فيها البيت، حيث لا يخفى على المُطّلع بأنّه جزء من قصيدة عنصرية وانتقامية للمُتنبي صممها عزمه على الثأر من كافور الإخشيدي ووصوليته ونفاقه السياسي وطمعه في الولاية التي لم تتحقق عنده، فهجاه سراً وعلناً بأقذع الصفات.
وأكثر المُستشهدين بشعر المتنبي يركزون على هذا البيت من القصيدة الهجائية ثم على أبيات معدودة من قصائد أخرى تستخدم في سياقات مختلفة تتعدد وتختلف بتعدد الآراء حول هذا الشاعر وإثارته لكثير من الجدل. وباستشهادهم بهذه الأبيات فكأنّ المتنبي لم يقضِ صباه وشبابه في نظم «الشاميات»، ولا تحت ظل حكم سيف الدولة الحمداني بعدها ليكتب «السيفيات»، ولا تحت ظل كافور الإخشيدي ليكتب «المصريات».
ما عهدناه ومنذ الصغر في مواسم الأعياد أنّ جهوداً تُبذل من أجل نشر الفرح ليطال البعدين الاجتماعي والنفسي، فتتم التهيئة للفرح الذي يجيء على شكل احتفالية وإن كانت مرسومة ومحدّدة فلا بد وأن تجد ما يخرجها عن منظومة إيقاعها التقليدي فتتحرر من أسر النمطية، وتتحرّر معها الأنفس المرهقة بالروتين المملّ من أسر تراكم عليها طوال أيام السنة. وكون الفرح ارتبط بالأعياد من زمن فإنّ الناس كانوا يعيشونه ذاتياً وبأقل الترتيبات المتاحة، الآن حتى هذا القليل الذي نبت بالدواخل تم قصّه كأي عشبة ضارة. فبعد أن كان أهلنا يصنعون الفرح أصبحوا ينتقلون إليه باستهلاك سلبي بقناعة حُدّدت من قبل الظروف والأوضاع العامة، وهذه القناعة تفيد بأنّ الفرح المرتبط بالأعياد أصبح مجرد استثناء وترف وليس ضرورة وحاجة طبيعية للإنسان. كما أصبحت المناسبة الجالبة للفرح هي مدعاة للحزن بفعل حرمان آخرين منها.
وهذا الحرمان تجاوز كل الأشكال السابقة من فقر وفوارق اجتماعية واقتصادية، يمكن أن تلتئم بفضل المشاركة، إلى حرمان أقسى بفعل حالة النزاع على كرسي السلطة. وقد كانت الفرحة الموسمية وذلك القليل المُرتجى الذي كان يأتي مع العيد لا يفي بإشاعة بعض هذه الروح، فما أن تنطوي صباحية العيد حتى يخلع الفرح رداءه ويخرج ثانيةً إلى غير رجعة قبل موسمٍ جديد. الآن وفي ظلِّ هذه الأوضاع فليس هناك من جرأةٍ للبحث عن هذه الصباحية، وعن أن تضع هذه الفرحة، ولو بسيطة ومباشرة حدّاً لتمدّد الأحزان والكآبة والتجهم المرسومة على الوجوه، من أجل حياة كادت تتصحر جغرافية الفرح فيها.
مرّت تفاصيل الأحداث الأخيرة في السودان وسط تهاني العيد والأمنيات الطيبة في العالم الإسلامي، ولكن لم تمرّ عبر أحزان أسر المفقودين. وعند التمعّن فيها يتم طرح إشكالية أساسية عن مستوى المسؤولية عن تلك الجرائم التي لا يُعرف مرتكبها بشكلٍ قاطع وضاعت تفاصيله بين تبادل الاتهامات، فالكلّ يبكي ولا ندري من سرق المصحف. المسؤولية الكُبرى هي أن يتصدى الجميع لنزعة الهوس الموجودة في مكان ما، والتي تأبى أن تترك الوطن ولا تسمح لشعبه المغلوب على أمره بالخروج من عنق الزجاجة إلى مستقبل يملؤه التفاؤل والأمل. ولا تتركه يرى بعيني حزنه النبيل أنّه ثمّة أمل ورجاء في أن يكون القادم أحلى وأكبر من أي هاجسٍ يحوّل فرحة العيد إلى نكدٍ تلاحقه لعنة المتنبي.
وهذه هي الحياة، ليتنا نعي بأنَّ كل زمان يأتي بمتطلباته وشروطه التي لو تمرّدنا عليها سنُلقى خارج إطاره، ولو أسرعنا الخُطى لاستباقه ستنتهي الحياة بنا ونحن لا نزال نلهث. وليس من سبيل غير التصالح مع الحاضر والنظر إلى الوراء بقصد التفكّر وليس التحسُّر لتتولد القناعة ويتحقق الرضا ولا تضيع من بين أيدينا فرحة نبحث عنها العمر كله لنجدها في زمان قد يأتي ولا يأتي.