ما يجري الآن في السودان لا علاقة له بالمعنى المتداول والمعروف لمفهومي السياسة والصراع السياسي، بقدر ما هو أقرب لأن يكون نسخة مسيّسة لأنشطة الجريمة المنظمة والمكتملة الأركان كما ترتكبها العصابات، ولدينا شواهد عدة تثبت وتؤكد ذلك.
أول هذه الشواهد وأهمها، جريمة فض اعتصام الثوار الذين ظلوا مرابطين أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني منذ السادس من أبريل/نيسان الماضي وحتى يوم الإثنين الدامي المشؤوم الثالث من حزيران/يونيو الجاري. المعتصمون كانوا شبابا يانعا من الجنسين، أكثر من 95٪ منهم من الفئة العمرية 18 ـ 25 عاما. ولأنهم كانوا يحلمون بسودان المستقبل الواعد، طفقوا مباشرة يحاولون تجسيد حلمهم في بناء نموذج مصغّر في ميدان الاعتصام، جمهورية، أو مدينة، فاضلة يكسوها الحب والإبداع وتفجير كل ما هو إنساني، حتى أصبح الاعتصام قبلة ومزارا.
كان الاعتصام سلميا حتى النخاع، وكان يمكن فضه بقوة صغيرة من الشرطة المدربة على فض التجمعات، مستخدمة القنابل المسيلة للدموع وهراوات الشرطة المعروفة، ومع ذلك، ورغم تطمينات خائبة وخبيثة من المجموعة العسكرية الحاكمة بعدم نيتها في فض الاعتصام، ورغم أن شباب الاعتصام ظل حالما ومطمئنا بأن جيش السودان الذي مافتئوا يغنون له وينثرون الورود على جنوده سيحميهم من أي بطش غادر، تعرض المعتصمون لأبشع مجزرة في تاريخ السودان الحديث راح ضحيتها أكثر من خمسمئة قتيل ومفقود، ومثلهم من الجرحى والمصابين، ولايزال نهر النيل يطفح بأجساد الشهداء رافضا المشاركة في هذه الجريمة النكراء. أما قيادة الجيش السوداني فأدارت ظهرها للمعتصمين.
تبع ذلك هجوم مسلح على المستشفيات القريبة من موقع الحدث وضرب العاملين فيها وإلقاء المصابين من مذبحة الاعتصام في الشوارع أو اعتقالهم، ثم إغلاق المستشفيات واحتلال المستودعات المركزية للأدوية ومنع خروج الدواء منها. ولم تتوقف جرائم القتل بدم بارد عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل قنص شباب الثورة في الشوارع وذبح ضباط الشرطة المعترضين على هذا السلوك الإجرامي. وفد الحركة الشعبية الذي أتى للبلاد بعد ضمانات من ثلاث دول يتم اعتقاله بعد ضربه وضرب كل من كان متواجدا معه، والمجلس الحاكم وأجهزته الأمنية ينكرون صلتهم بعملية الاعتقال، مما جعل الجميع يتوجسون خيفة من أن تتم تصفية الوفد. بعد النجاح الباهر لانطلاقة العصيان المدني، شُلت الحركة تماما في البلاد، وأصبحت مدن وقرى السودان وكأنها مسكونة بالأشباح، لا تسمع فيها إلا لعلعة الرصاص هنا وهناك.
قبل أي حديث أو مبادرات حول كيفية تسليم السلطة للمدنيين فإن الأولوية القصوى هي شل العقليات والأيادي المجرمة التي تمارس القتل ضد شعب السودان
المجموعة الحاكمة أقدمت على قطع خدمة الإنترنت من البلاد منذ يوم المذبحة، صحيح في محاولة لمنع كشف الجرائم والفظائع التي ارتكبتها، لكن أيضا لمنع التواصل بين شباب الثورة ظنا منهم أن ذلك يكفي لدحر العصيان، ولكن هيهات. كل هذه الشواهد تكفي للتأكيد على أن ما يمارسه المتحكمون في مقاليد السودان اليوم لا علاقة له بالسياسة، بل يمارسون إرتكاب الجرائم كما تمارسها العصابات.
في مقال سابق لنا، تحدثنا من قبل عن أن ثورة الشعب السوداني ستواجهه تحديات جسيمة وخطيرة، يستوجب التعامل معها بكل الجدية المطلوبة، وإلا شكلت مدخلا مريحا للانتكاس، علما بأن الانتكاسات لا تعني إجهاض الثورة. وقلنا إن أولى هذه التحديات هي أن انتصار الثورة ظل جزئيا وغير مكتمل بتوقفه عند الإطاحة برأس سلطة تحالف الاستبداد والفساد، أو غطائها السياسي، بينما جسد هذا التحالف باق ينخر في عظام الثورة وينسج خيوط غطاء سياسي بديل، لينقض ويحكم من جديد بقوة الدم المسفوح.
وحتى إذا لم يتمكن جسد هذا التحالف من استرداد السلطة، فلن يهمه أن تدخل البلاد في نزاع دموي شرس. وأشرنا إلى أن هذا النزاع الدموي سيكتسب الديمومة بفعل عدد من العوامل الداخلية والخارجية. فداخليا، من الصعب على تحالف الفساد والاستبداد أن يفرط في ما راكمه من ثروات ضخمة خلال العقود الثلاثة الماضية. وهي ثروات لم تُجن بكدح عرق الجبين أو بتدوير رأسمال متوارث، وإنما باستغلال يد السلطة في نهب موارد البلاد وأحلام مستقبل شبابها.
وفي المقال ذاته استنتجنا بأنه ظل حقيقة أن هذه الثروات لم تُمس بعد الإطاحة بالبشير، ويجري استخدامها في التحضير الجدي للانقضاض، وفي ظل حقيقة أن الجرائم البشعة التي أرتكبت خلال الثلاثين عاما الماضية ثم إبان حراك الثورة، لاتزال دون مساءلة أو عقاب، بل أن مرتكبيها لا يزالون في مواقع السلطة، وفي ظل وجود قوة مسلحة ضمن هياكل السلطة المفترض أنها شريك الثوار في الثورة، وتدين بالولاء لتحالف الفساد والاستبداد، وعقيدتها القتالية الانتقام من الشعب ومن ثورته…الخ.
في ظل وجود كل هذه الحقائق، كان استنتاجنا إمكانية انقضاض تحالف الفساد والاستبداد على الثورة. ويعزز من هذه الإمكانية، استقطابات المحاور الخارجية وحربها بالوكالة على أرض السودان. فبعض هذه المحاور تواصل تمتين علاقاتها مع مجموعات واسعة تتشارك الرؤى وعموميات الفكرة، بهدف خلق غطاء سياسي جديد يعمل على الاستفادة القصوى من جسد تحالف الفساد والاستبداد الذي لا يزال متمكنا في مفاصل الدولة، تمهيدا للانقضاض على الثورة، بينما على الجانب الآخر من ميدان الحرب بالوكالة، تجتهد محاور مضادة للانتصار لمصالحها، معلنة انحيازها للثورة، لكنها تستخدم الكثير من التاكتيكات التي يمكن أن تضر بهذه الثورة.
قبل أي حديث أو مبادرات حول كيفية تسليم السلطة للمدنيين فإن الأولوية القصوى الآن، إضافة إلى توفير كل سبل المقاومة والعصيان، هي شل العقليات والأيادي المجرمة التي تمارس القتل ضد شعب السودان المسالم. وأعتقد أن أنجع الآليات التي يمكن أن تحقق هذا الشلل هي، أولا، وحدة قوى الثورة وتماسكها ودفع أي تناقضات بينها إلى الوراء، وثانيا، التمسك بسلمية الثورة ورفض أي دعاوى لحمل السلاح، وثالثا، دعوة المجتمع الدولي والمجتمع الإقليمي، لتوفير الحماية للشعب السوداني المحاصر بالقتل والتشريد.
نقلا عن القدس العربي