مرة أخرى، السودان تتقاذفه الأحداث والمصائب الجسام، فهو يمور مورا من هولها وارتداداتها المدوية وعواقبها الخطيرة على مصيره ومستقبله، الأمر الذي يفرض علينا جميعا-أهل السودان-طرح سؤال المصير والوجود والمستقبل وسيناريوهاته الخطيرة والمخيفة التي يمكن أن تقود إليها مفاعيل الأوضاع والأحداث المتلاحقة والمتسارعة في البلاد.
أن المذبحة الشنيعة التي أرتكبها المجلس الانقلابي ضد الثوار السلميين الذين كانوا يعتصمون أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، في 29 رمضان صبيحة وقفة عيد الفطر المبارك، قد وضعت السودان أمام سيناريوهات مصيرية صعبة، فالمذبحة التي أرتكبها المجلس العسكري بواسطة قوات الجنجويد (الدعم السريع) والأمن وكتائب الظل وغيرها والتي ذهب ضحيتها المئات من الشهداء من بينهم أطفال ونساء وعجزة، قد صدمت السودانيين جميعا وأحدثت فيهم جراحا غائرة وحزنا عميقا، وحركت كوامن غضبهم ورفضهم للمجلس العسكري الانقلابي، وجعلتهم أكثرا إصرارا وعزيمة على الثورة عليه وإسقاطه أكثر من أي وقت مضى.
صحيح، ان المجلس العسكري الانقلابي قد تمكن من فض الاعتصام على وقع وحد تلك المذبحة البشعة والبربرية والتي صدمت العالم بأسره، لكن، ارتكاب المذبحة ينم عن غباء وارتباك وتخبط بنيوي لدى المجلس العسكري الانقلابي. ذلك أنه بفعلته الشنيعة الفظيعة تلك، قد وحد السودانيين جميعا على طول البلاد وعرضها، ضده، حقا، إن السودان لن يكون كما كان قبل مذبحة اعتصام القيادة في 29 رمضان، ذلك أن كلمة الثورة أضحت هي العليا، إسقاط المجلس العسكري الانقلابي هو الهدف الأوحد لقوى الثورة وجماهير الشعب السوداني قاطبة، حيث ترفض كافة قوى الثورة التفاوض مع المجلس العسكري الانقلابي. فلا أحد من القيادات السياسية الآن يستطيع أو يملك الشرعية للتفاوض أو التواصل مع المجلس الانقلابي، وإلا ووجه بالرفض والعزل. فالآن لا ثقة البتة في المجلس، فقوى الثورة وجماهيرها العريضة ينتابها غضب وشعور عميق بغدر وخيانة المجلس الانقلابي الذي تظاهر بالانحياز إلى الثورة، فدخل معه ممثليها في عملية تفاوض عبثية حينما زعم أنه يريد تسليم السلطة إلى المدنيين، لكنه انكشف وتعرى للجميع، أنه كان متآمرا، وأنه يخطط لشراء الوقت لتنفيذ خطته في اغتصاب السلطة وتسليم مقدرات البلاد إلى مشغليه الإقليميين على حساب دماء السودانيين العزل الذين ذبحهم أمام القيادة العامة وما زال ينكل بهم قتلا وسحلا واعتقالا واغتصابا وتشريدا وتعذيبا.
لكن مذبحة القيادة العامة ضد الثوار السلميين وتنكر المجلس الانقلابي لوعده بتسليم السلطة للمدنيين واستمراره في الزج بالسودانيين في حرب اليمن، قد عزلته وكشفت خيانته وتآمره وفاشيته على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، فتصاعد الحراك الثوري الداخلي والإدانات الإقليمية والدولية، وبدأت إجراءات وتدابير محاسبته وعقابه، كان آخرها قرار مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي الذي أدان الانقلاب وجمد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، القرار قوبل بعاصفة من التأييد الإقليمي والدولي، الأمر الذي أربك المجلس وحلفائه، فما زال رئيسه الجنرال عبد الفتاح البرهان يتخبط بين انكار المذبحة والاعتذار عنها، وتصريحاته بقفل وفتح باب التفاوض مع الثوار، فيما يحاول نائبه حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قائد الجنجويد (ميليشيا الدعم السريع) إنكار المسؤولية عن المذبحة، بل ويزعم أن هناك جهات تستهدف قواته بتشويه سمعتهما لدرجة التنكر في زيها الرسمي. لكن، قطعا لا أحد يشتري هذه الدعاية، فالشعب السوداني، حتى الأطفال يعلمون علم اليقين أن قوات الجنجويد متورطة في المذبحة. وفي هذا الحال من الأهوال الكبرى المتصاعدة في السودان، ما هي السيناريوهات المتوقعة لسير الأحداث ومصير ومستقبل السودان؟ فيما يلي نستعرض بعض السيناريوهات وأفكار حول المخرج الاستراتيجي من المأزق:
السيناريو الأول، أتصوره بناء على تحليلي لطبيعة وخلفية ومصالح مكونات المجلس الانقلابي وعلاقاته الداخلية والإقليمية، فمثلا الرجل القوي في المجلس الانقلابي والحاكم الفعلي للسودان الآن حمدان دقلو/حميتي يريد أن يتشبث بالسلطة بأي ثمن، فالسلطة في نظره هي حصانة وحماية له وتوفر له الفرصة للافلات من الملاحقات الجنائية الدولية ومحاولات الثأر منه للجرائم التي أرتكبها في إقليم دارفور، كما أن حميتي قد انفتحت شهيته للسلطة خاصة في ظل ضعف الجيش الوطني، فهو يرى أنه أمام فرصة ذهبية لتحقيق تطلعاته وطموحاته. من جانب آخر، بعض القوى الأقليمية تخطط لأن يسيطر حميتي على السلطة في السودان ليواصل رفده لها بالمقاتلين للقتال في اليمن وليبيا. بناء على هذا كله، لن يتخلى حميتي عن السلطة حتى لو لجأ إلى خيار “شمشون”. أي يهد المعبد بمن فيه. لكن، هذا السيناريو يحمل في طياته مصير الحرب الأهلية الشاملة والتفتيت.
السيناريو الثاني: تنفيذ انقلاب جديد من قبل ضباط الجيش من أصحاب الرتب الوسيطة والدنيا لتصحيح الأوضاع بتسليم السلطة للمدنيين، خاصة بعد أن انكشفت خيانة المجلس العسكري الحالي، الذي بات واضحا للجميع أنه لم ينحز إلى الثوار، بل اغتصب السلطة لتحقيق أهدافه وكفلاءه الإقليميين. هذا السيناريو، أي سيناريو الانقلاب الجديد يمكن أيضا أن تنفذه بعض جماعات المصالح من عمق النظام البائد ودولته العميقة، مستفيدة من عزلة وارتباك المجلس الانقلابي الحالي. هذا السيناريو لن يخلو تنفيذه من مواجهات دموية يمكن أن تكون منفتحة على احتمالات خطيرة.
السيناريو الثالث: هو أن يتمكن المجلس الانقلابي من السيطرة على الأوضاع بالحديد والنار وبدعم مشغليه الإقليميين، لكن هذا السيناريو لن يستمر طويلا، لأن السودانيين لن ينصاعوا أو يستسلموا له، لذلك ربما يدفع هذا السيناريو الشباب الثائر الغاضب الذي كسر حاجز الخوف إلى حمل السلاح لمواجهة المجلس الانقلابي وميليشياته، وربما يقود هذا الوضع إلى إنقسامات في الجيش السوداني وذلك رفضا وتمردا ضد سيطرة ميليشيا الجنجويد وتقاعس بعض قيادات الجيش المتواطئة معها مثل رئيس المجلس الانقلابي الجنرال عبد الفتاح البرهان.
السيناريو الرابع: وهو أن تنتصر ثورة ديسمبر بإسقاط الانقلاب والثورة المضادة، وتأسيس الحكم المدني الديمقراطي الذي من المأمول أن يضع السودان في طريق مشروع بناء الأمة وفقا لمشروع وطني جديد يصنعه كافة أهل السودان. لا شك، أن هذا هو السيناريو المفضل الذي يرنًو إليه كل أهل السودان، بيد أنه يحتاج إلى عوامل ونضال مدروس حتى يتحقق، على سبيل المثال، لن يتحقق هذا السيناريو إلا بوحدة قوى الثورة والسودانيين جميعا، لكن يجب على قوى الثورة أن تنظف صفوفها من بعض فصائلها التي تحاول إبرام صفقات تحت الطاولة مع المجلس الانقلابي وشركائه الإقليميين، كما يجب عليها تحييد القوى الأقليمية والدولية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب دماء وتطلعات السودانيين في الحرية والسلام والديمقراطية. كما يجب على قوى الثورة الإقلاع عن سياسة وتكتيكات الإقصاء، والعمل على بناء جبهة وطنية ثورية عريضة عابرة للآثنيات والديانات والثقافات والايدولوجيات والخلفيات الاجتماعية والنوع.
السودانيون على موعد جديد مع التاريخ للحفاظ على وحدة كيان وطنهم الذي يجب أن يسعهم جميعا بلا تمييز أو تفرقة، كما يجب عليهم مقاومة الثورة المضادة وسيناريو الحرب الأهلية الشاملة وحروب الوكالة والتفتيت.