الحديث هاهنا يُعنى بِ الأندلس المفقود في رواية ثلاثية غرناطة، التي هي ثلاثية روائية تنطوي عن ثلاثة أجزاء سطرها قلم الكاتبة المصرية رضوى عاشور وهي على التوالي:
• غرناطة
• مريمة
• الرحيل
من أول وهلة حينا يتنقل القاري بين دفتي هذه الرواية التراجيدية يستحضر آلام أمتنا ومرارات الحاضر القابع أمام أعيننا والتي لا تحصى ولا تعد، ذلك في كل دويلاتنا العربية التي ترفع دون لائ اسم الدين والتقوى ولكن للأسف بلا طعم ولا رائحة. الحديث عن الأندلس المفقود يقودنا بطبيعة الحال إلى حقيقة ماثلة أمام أعيننا أننا نعيش يا سادتي أندلسا مفقودا بحق وحقيقة وبكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، ذلك في كل المجالات التي يرتادها المرء منّا إن استطاع وإن لم تقف متاريس الزمن العاتية في وجهه مقطبة كاظمة غيظها تارة ولافظة به تارة أخرى. نحن يا اخوتي نفتقد لأندلس السلم والسلامة، أندلس الحبّ والطمأنينة، أندلس العيش الكريم في بلادنا، وأخيرا أندلس الرحمة من بني البشر تجاه بعضنا البعض ومن ثمّة تجاه خلق الله من حيوان وطبيعة وحجر.
وربما وبعد أن تجتاز حرياتنا المكبوتة متاريس العقل والمنطق نستحضر كلمة الأندلس المفقود بلا شك، وذكرى أناس أبلوا في هذا البلد بلاءً حسن بنكران ذات وعزيمة لا تضاهيها عزيمة، أساتيذ مثال أحد رجالات الأمة وشاعر مخضرم من أبناء السودان الأبرار وركيزة من إحدى ركائز عظمته وشأوه سواء في الشعر أو السياسة: الشاعر والسياسي المخضرم محمد أحمد المحجوب. كيف؟ لأنه في قصيدته “الفردوس المفقود” رثى، كما جاء في رواية الأستاذة رضوى عاشور، أمجادا لا تزال شاهدة على حقبة ذهبية من أهم حقب التاريخ الانسانيّ على الإطلاق. يقولون أن المحجوب حينا مرّت الطائرة بجنوب إسبانيا وهو في الطريق إلى بريطانيا، أنه بكى واستحضر هذا التاريخ المرير الذي دونته رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة ببراعة ودقة منقطعة النظير. فالشاعر والكاتبة يلتقيان في نقطة الألم وبؤرة الأسى فيما فُقد من إرث لا يعود، بل صورت رضوى عاشور مآلات هذا الانهزام ومآسي أهل الأندلس من العرب في جلّ مدنها (غرناطة، أشبيلية، سرقسطا، بلنسيا). وقصيدة المحجوب عددت المآثر الأندلسية الضائعة وبكى عليها هو بدمع غزير وأبكى الآخرين. لكن المحجوب كما رضوى عاشور انطلقا ليشحنا النفوس ويرفعا الهمم ويحثا على التأهب لاسترداد ما راح هباء منثورا وكم نحن في حاجة ماسة لهذه القوافي في زمن وصلت بلداننا فيه لأسفل سافلين. سطرت رضوى عاشور عن قضايا الاهتمام بالعلم وبالكتاب وأبدع المحجوب في استحضار ولادة بنت المستكفي وابن زيدون وهما يرتعان في حدائق الحمراء الغراء.
تقص علينا رضوى عاشور تاريخ مملكة غرناطة بعد أن سقطت في يد جيوش القشتاليين في عام ١٤٩١م وتنطلق منها لتسرد مآلات الممالك الأخرى التي تصدعت وسقطت بعد أن كانت متماسكة تحت الحكم الأموي في إشراقته الأولى، فصارت ممالك عدّة، تناحرت فيما بينها والتهت بالجاه والثراء والمجون والجواري فاسرفوا في ذلك حتى جاء أمر الله وقدره بنهاية المطاف. تسرد لنا كيف انمحت قرناطة عروس الأندلس من صفحات التاريخ العربي عند إعلان المعاهدة التي تنازل على ضوئها الأمير أبو عبد الله محمد الصغير، آخر ملوكها لملكيّ قشتالة وأراغون. رغم الوعود التي حددتها المعاهدة – كما تسرد الرواية – فلم تصان كرامة المسلمين (أو الموريسك – العرب)، فبدأت حمالات التفتيش على كل من ينتمي للعرب أو يشبههم، فحرّم الكلام بلسان القرآن وأحرقت الكتب العربية وأجبرت الغالبية في الدخول إلى المسيحية ونفي يوم الجمعة كيوم مقدس عند العرب، وحُرم دفن الموتى على الطريقة الإسلامية ومنعت الاجتماعات ومجالس العلم التي تفقه الناس في لغتهم ودينهم وحتى الأفراح العربية والحناء والطهور. من أغرب الأشياء التي ذكرتها عاشور في الرواية، حتى المعلمين في المدارس كانوا يتصافقون على الأسر وينزعون سراويل الطلاب ليروا ما تحتها هل مطهر أم لا! وبدت آنذاك رحلات السفر القسري إلى المغرب العربي – المغرب، تونس والجزائر. لقد استمرت فترة التفتيش عشرات السنين وتناقل مسلمو الأندلس الخبر اليقين من قرية إلى قرية ومن واد إلى آخر، وما كان من بعضهم إلا أن ينزلوا عن رغبة القشتاليين ويرحلوا إلى بلاد المغرب العربي. فبيع العرب كالعبيد وصارت املاكهم تحت رحمة الملك، فمن له دار أو مزرعة إما اقتلعت منه أو صار عبدا يحرث ويزرع للأمراء والملك. وكل ما تصنعه أياد العرب، يذهب أغلبه للملك والأمراء: المحصول الزراعي، الماشية، الدواجن، وحتى الغزل الذي يقمن به النساء صاروا تتقاسمونه مع الحكام القشتاليين.
من الروايات النادرة التي يفرض البطل (المكان) فيه نفسه. صاغتها ريشة رضوى عاشور بسلاسة وتفرد وكان دقيقة كل الدقة في انتقاء المادة المعجمية. فالتعابير يعجبك غزلها والكلمات يحتويك نغمها ووقعها وكأنها سلاسل نظمت لتكون عقد فريد أو مسبحة من ثلاثة أجزاء. يدهشك الكم الهائل من الكلمات التي لم نعد نتداولها لا في الأدب ولا في الصحافة وذاك لعمري كنز معجميّ ثمين. يتعلم القارئ من الرواية كيف نسميّ الأشياء فخرجت من عمومية المسميات إلى لغة الأغراض الخاصة والدلالات.
حقيقة ربما تنتاب المرء منّا عند قراءة الرواية حالة نفسية حادة هي أقرب إلى الاكتئاب منها إلى الحزن لما تحمله في طياتها من كم هائل من مواجع ومآسي. تتعاقب على الرواية على الأقل أربعة أجيال من سكان الأندلس. منهم من عاش الحقبة الذهبية ومنهم من لحق أواخرها والغالبية لم تنل حظا وافرا من هذا النعيم الذي غمر تلك المنطقة إذذاك. لم يصبني أيّ من القلق أو الفتور الحسيّ ولا حتى في الجزء الأخير (الرحيل) الذي تتالت أحداثه بسرعة مدهشة وإن أخذت على الكاتبة في هذه الرواية شيئا فإني آخذ عليها تعجلها في تكديس الأحداث والتنقل بينها بهذه السرعة في حقبة الرحيل. لأنها أفقدت وقع الأحداث – الذي هو كوقع الموسيقى – نبضه الأول. ولكن هذا احساسي أنا بالتسلسل الزمني في الرواية. ولو تمهلت الكاتبة – رغم نجاح هذه الرواية – وتروّت نقل روح الأبطال مثل أبو جعفر مروراً بسليمة وسعد وحسن ونعيم ونهايةً بمريمة وحفيدها علي لكان الأمر آخرا. رغم ذلك ينبغي علينا أن نحترم احساسها الروائي في السرد لأنها هي التي أبدعته وأحسته هكذا ولولا اختلاف الآراء لبارت السلع.
خلاصة القول أن رواية رضوى عاشور “ثلاثية غرناطة” هي بدون شك من الروايات العربية المعاصرة القليلة التي نعتز بأنها وقعت على أيدينا ونفخر بأننا قرأناها لأنها تُعنى بحقبة تاريخية هامة وثّقت لها الكاتبة بجدارة وصورتها ملاحمها بدقة المبدع الفنان الذي تتمايل الريشة في يده كيف يشاء فخلقت لنا عبر هذا التسلسل الأندلسي الفريد بوتقة تفتقت أزهارها اليانعة في مآثر التاريخ والإرث الذي خلفه العرب بغرناطة، ثم تأججت نار الوجد والألم في فقدها ثم زبلت تلك النيران مع أمواج الرحيل والبكاء خلف القصور الدامعة مع شمس الغروب، فهل لنا فيها من عبر؟
نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا / فذقتُ فيكِ من التبريحِ ألوانا
وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ / داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ / ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا
ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها / ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا
ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها / مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانا
كم فارسٍ فيكِ أوْفى المجدَ شرعتَهُ / وأوردَ الخيلَ ودياناً وشطآنا
وشاد للعُرْبِ أمجاداً مؤثّلةً / دانتْ لسطوتِهِ الدنيا وما دَانا
وهَلْهلَ الشعرَ، زفزافاً مقَاطِعُهُ / وفجّرَ الروضَ أطيافاً وألحانا
يسعى إلى اللهِ في محرابِهِ وَرِعاً / وللجمالِ يَمدُّ الروحَ قُربانا
لمَ يَبقَ منكِ: سوى ذكرى تُؤرّقُنا / وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانا
(رواية: ثلاثية غرناطة؛ المؤلفة: رضوى عاشور؛ إصدار: دار الشروق ٢٠١٣)