يمر السودان بمرحلة مخاض حرج وانتقال صعبة منذ انتصار ثورته الشعبية فى 11 أبريل الماضى ضد نظام الإخوان المسلمين المتمثل فى حكم الجبهة الإسلامية. ومع إزاحة عمر البشير وكل الرموز الأساسية للنظام السابق وحل الحكومة ومصادرة دور وممتلكات حزب المؤتمر الوطنى الحاكم، ظن البعض ان انتصار هذه الثورة الشعبية العظيمة، كفيل بان تعود الأوضاع إلى طبيعتها، وان يبدأ السودان عهدا جديدا يتهيأ فيه لتحقيق أهداف الثورة التى كان شعارها الاساسي: حرية، سلام، وعدالة، إلا أن الواقع اكثر تعقيدا ويزداد اضطرابا وخطرا يوما بعد يوم.
فعلى الجهة المقابلة لقوى الثورة، تقف قوى النظام السابق تراقب وتضع العراقيل، وتتأهب لإفشال المرحلة الانتقالية والعودة مرة أخرى فى الانتخابات المقبلة تحت لافتات جديدة، يتم الإعلان عن بعضها فى الوقت الحالى، كما تمارس تأثيرها أيضا من خلال تغلغلها الكامل فى جهاز الدولة، حيث حرص تنظيم الجبهة الإسلامية على تطبيق إستراتيجية التمكين منذ وصوله للسلطة عبر انقلاب 30 يونيو 1989، فتغلغل فى القوات المسلحة السودانية وفى أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية، وأنشأ أيضا دولة موازية قصرها على عضويته الحزبية، عبر أجهزة الدفاع الشعبى والأمن الشعبى والشرطة الشعبية، ساعيا إلى تشتيت وتوزيع مراكز القوة فى الدولة، لمزيد من إحكام قبضته وسيطرته، وأيضا لإضعاف فرص إزاحته او الانقلاب عليه.
ووجه الصعوبة يتجلى فى أن الأمور ما زالت تتفاعل وتزداد تعقيدا يوما بعد آخر دون أفق واضح للحل. فى الوقت الذى مازالت فيه الحركات المسلحة فى دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وكذلك الأوضاع المتردية فى شرق السودان، تنتظر الوصول إلى حلول وتفاهمات لكى يتم النظر فى مطالبها وأطروحاتها التى تعبر عن المظالم الهائلة التى لحقت بهذه الأقاليم. وكل ذلك يجرى فى ظل الازمة الاقتصادية الكارثية التى يعانيها السودان منذ ما قبل سقوط نظام البشير، نتيجة النهب واسع النطاق لموارد السودان ومقدراته والمستويات غير المسبوقة للفساد والمحسوبية وانخفاض الكفاءة.
ورغم كل هذه العوامل الضاغطة، فان المشهد لا يتجه الى الحل أو بناء الحد الادنى من التوافق، فلقد مر حتى الآن أكثر من شهرين منذ سقوط البشير، فشلت فيهما كل جولات التفاوض بين تحالف قوى الحرية والتغيير وبين المجلس العسكرى، حيث ظلت هذه المفاوضات فى حالة شد وجذب واستعصاء لأسباب كثيرة معقدة ومتداخلة. ومع القيام بفض الاعتصام الذى كان متمركزا أمام القيادة العامة للجيش السودانى فى 3 يونيو الحالى، باستخدام قوة مفرطة، ازدادت حدة الاستقطاب والمواجهة، وأعلن تحالف الحرية والتغيير حالة العصيان المدنى لإظهار عدم شرعية المجلس العسكرى الانتقالى وإصابته بالشلل، مع إقامة المتاريس فى الشوارع لعرقلة حركة القوات الأمنية والحد من قدرتها على السيطرة. ومن ثم فقد اصبح السودان يواجه احتمالات مفتوحة تقف به على حافة الفوضى إن لم يتم تدارك الأمر والوصول الى تسوية تنزع فتيل المواجهات أو الانزلاق نحو صدامات مسلحة، فسوف تتحول فى حالة وقوعها الى اقتتال اهلى، يأخذ السودان الى ما هو اكثر شدة وضراوة من السيناريو الليبى.
ورغم التوصل فى 11 يونيو الى اتفاق عبر الوسيط الإثيوبى، بالعودة الى استئناف المفاوضات بشكل غير مباشر من النقطة التى توقفت عندها سابقا، مع إيقاف تحالف الحرية والتغيير حالة العصيان المدنى، إلا انه كان واضحا للمراقبين، ان هذا لا يعنى تراجع الازمة او حتى قرب انتهائها، فالعودة للتفاوض لا تعنى قرب الوصول لاتفاق، إذ تكرر هذا السيناريو من قبل عدة مرات. وقد تأكد ذلك مع المؤتمر الصحفى الذى عقده المتحدث باسم المجلس العسكرى لاحقا، والذى أتضح من خلاله ان هناك عقبات عدة وان عددا من الشروط أو المطالب التى وضعها تحالف الحرية والتغيير غير مقبولة من المجلس العسكرى، وان الشقة بين الطرفين ما زالت واسعة.
وهكذا فإن المشهد السياسى الحالى يتسم بدرجة عالية من الاستقطاب، خاصة ان قطبى المواجهة وهما تحالف الحرية والتغيير، والمجلس العسكرى الانتقالى، يعانى كل منهما مشكلات داخلية وعدم انسجام واضح. فتحالف الحرية والتغيير يتكون من اربعة تحالفات رئيسية (تجمع المهنيين، نداء السودان، الإجماع الوطنى، التجمع الاتحادى المعارض)، وكل تحالف من هؤلاء الاربعة يتشكل بدورة من عدة فصائل. ولم ينجح التحالف حتى الآن فى تشكيل مجلس قيادى ينظم عملية اتخاذ القرارات والتفاوض والتواصل مع الآخرين، ويساعد على تجاوز حالة التململ الواضحة لدى بعض مكونات التحالف والشكوى من ان هناك توجها حزبيا بعينه يسعى للهيمنة والاستئثار بالقرار. وعلى الناحية الأخرى نجد ان المجلس العسكرى الانتقالى ليس إلا انعكاسا للمنظومة الأمنية التى كان قد شكلها وقام بتكوينها النظام السابق وتتكون من اربعة مكونات رئيسية، هى القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وجهاز الامن والمخابرات الوطنى وجهاز الشرطة السودانية. ومن المعروف ان العناصر القيادية فى كل هذه المكونات قد وصلت الى مواقعها فى عهد النظام السابق وطبقا لمعاييره، فضلا عن قوات الدعم السريع تعد عنصرا دخيلا بالنسبة لباقى المكونات، إذ إن هذه القوات ليست إلا تطويرا لما عرف فى وقت سابق باسم قوات الجنجويد، وانها لم تتلق التدريب المهنى الكافى ولا تتصف بالانضباط أو بالقيم العسكرية المتعارف عليها.
وغنى عن القول أن استمرار حالة الاستقطاب الحادة السائدة فى الوقت الحالى، تمثل خطرا حقيقيا على تماسك الدولة السودانية، التى تتسم بالهشاشة، إثر ثلاثة عقود من حكم الإخوان، والتى نتج عنها أن عوامل التفكك أضحت أكبر من عوامل الانسجام والوحدة، الأمر الذى يعنى ان كل الجهود يجب ان تتسارع للحفاظ على التماسك ووحدة أراضى السودان، واعتبار ذلك بمنزلة الهدف الذى يجب ان ينتبه له الجميع وان يكون أولوية قصوى لدى جميع الاطراف.
نقلا عن الاهرام المصري