“في يوم من أيام صيف عام 1939 خرج مستر كلارك الإنجليزي من مكتبه بشارع النيل، بصحبة مترجمه السوداني إلى الشارع ليتفرج على الخرطوم لأول مرة في حياته؛ إذ كان قد وصلها الليلة الفائتة منقولا من مستعمرة الهند – درة التاج البريطاني-..
كان أول ما لفت نظره في سكان تلك البقعة ذوي السحنة السوداء؛ القوام الفارع، والأجساد القوية بجانب عضلاتهم المفتولة، وقفز إلى ذاكرته – كما يقول عمر حسن غلام الله – منظر الأجسادٍ الضئيلة والقامات القصيرة من شعوب تلك المستعمرة التي جاء منها، وكيف أنّ تلك الأجساد كانت تنوء تحت ثقل جسمه السمين، فقال في نفسه: إنّ هؤلاء السودانيين هم أٌقدر على حملي، والمشي به في مشاويري القصيرة دون أن يترنحوا.
أمر مستر كلارك مترجمه وهو يشير إلى أحد السودانيين المارين أمامه – وكان شاباً طويل القامة وقوي البنية- أن ينادي ذلك الرجل ليركب على كتفيه فيتجول به ليتفرج على الخرطوم من عل..
افترّ ثغر المترجم عن ابتسامة غامضة؛ متخيّلا ما سيحدث، ولم يتردد في تنفيذ أمرة أملاً في أن يتّعلم الخواجة الدرس الأول من هذا الشاب. فنادى الشاب بلهجة سودانية صرفة:
– يا زول تعال.
جاء الشاب نحوهما قائلا: حبابكم – مرحبا-
فقال المترجم: الخواجة ده قال عاوز يركب فوق ضهرك ويمشي يتفسح في شوارع الخرطوم.
عقدت الدهشة لسان الشاب؛ فقال مستفهما أكثر: قلت شنو؟
– قلت ليك الخواجة ده عاوز يركب فوق ضهرك زي الحمار، أصلا متعود على كده في الهند.
كان رد الفعل سريعاً وحاسماً أكثر مما تصوّر المترجم، فقد قال له الشاب: قل للخواجة ده نحن هنا عندنا الكبير يركب فوق ضهر الصغير.
ولم ينتظر من المترجم ترجمة ما قاله، بل أمسك بخناق الخواجة وثبّته أرضا ثم وثب فوق كتفيه مزمجرا:
– يا خواجة يا نجس، الليلة أوريك الما شفتو لا في الهند ولا في بلدكم.
يقول سارد القصة أنّ المترجم وبعض المارة استطاعوا بصعوبة تخليص الخواجة من تحت أقدام الرجل الغاضب، وأنّ مستر كلارك فتح بلاغا في مواجهة الرجل الذي تمّ حبسه..
وصل الخبر إلى الحاكم العام، فأصدر أوامره بإطلاق سراح الرجل السوداني حالاً، ونقل مستر كلارك فوراً من مستعمرة السودان، ووجه تقريعًا لمستر كلارك فحواه أنّه لا يصلح للعمل هنا فالسودان ليس كبقية المستعمرات البريطانية الأخرى؛ وأن التعامل مع شعبه يتطلب صنفاً آخر من الموظفين.
في عرفنا الشعبي نطلق على تصرّف الرجل السوداني بأنّه “حماقة سودانية” والمصطلح لا يُقصد به نقص العقل أو الطيش وإنّما “الإصرار على فعل الشيء انتصارا للكرامة الشخصيّة وعزة النفس دون التفكير في عواقب الأمور حتى لو كانت الموت نفسه”.
قريب من هذه “الحماقة السودانية” ما أقدم عليه الشاويش عوض حين قتل ضابطاً بريطانياً كبيراً في الحرب العالمية الثانية. فالقصة تقول أنّه عند استيلاء الجيش البريطاني على مدينة بنغازي الليبية شاهد الشاويش عوض نسوة ليبيات ينتحبن في خيمة عرس كبير، فهرع إليهنّ مُستفسرًا عن سر النحيب؛ فأخبرنه أنّ ضابط بريطانيا دخل خيمة العرس عليهن وأخذ العروس عنوة إلى خيمته بعد أن هدد ذويها بالقتل إذا لحقوا به..
أسرع الشاويش نحو خيمة الضابط البريطاني، وهناك هاله ما رأى؛ إذ شاهد الضابط وهو يحاول اغتصاب العروس، فما كان منه إلا أن أشهر مسدسه وأردى الضابط قتيلاً..
لم يحاكم الشاويش، وقدّم مرافعة رائعة فحواها أنّه كان يدافع عن شرف الفتاة العربية المسلمة، وأنّ تصرّف الضابط لا يمت بصلة لتصرف الإنجليز الذين رآهم في السودان. حيث كان الإنجليز ينتدبون إلى السودان خريجي أكسفورد وكمبريدج، ولا يستخدمون أي مسؤول خدم في الهند أو المستعمرات الأخرى. وكانوا – كما ذكر شوقي بدري- يحذرون المنتدبين من المساس بمعتقدات السودانيين وعاداتهم أو التقرب من نسائهم. وقد أورد بابكر بدري في مذكراته أنّ “الإنجليز استباحوا مدينة أمدرمان ثلاثة أيام، ولكن لم يمدوا يدهم أبداً إلى النساء، وشمل هذا الحظر حتى الجنود السودانيين الذين انضموا للجيش الغازي، والمصريين والأتراك وبقيّة أفراد الجيش”. وحكى أنّ ضابطين إنجليزيين دخلا منزلهم ولم يأخذا سوى شمعدانين كنوع من الذكرى لاحتلال أمدرمان.
ومن ذاك؛ ما كتبه الأديب الراحل الطيّب صالح وهو أنّ ضابطًا بريطانيًا جاء ليعلمهم الإنجليزية في المدرسة، وكان قد ألزمهم بقراءة كتاب عسير في الأدب الإنجليزي، فلما احتجّ التلاميذ مطالبين بأن يُستبدل الكتاب بآخر أقل وعورة غضب المعلم غضبًا شديدا، وعنّفهم بلهجة متعالية، ووصفهم بالهمج الذين لن تُجدي فيهم تربية ولا تعليم؛ فما كان من التلاميذ إلا أن أعادوا جميع نسخ الكتاب إلى منضدة الأستاذ في صمت، فهاج الأستاذ وماج وزادهم شتما وتقريعًا. ولمّا وصل الأمر لناظر المدرسة الذي كان إنجليزيا وعالمًا بطبائع أهل السودان أعاد الضابط من حيث جاء في غضون أسبوع واحد..
يقول الطيب صالح: “كان ذلك أول عمل من أعمال (المقاومة السلمية) نقوم به، ونحن بعد أيفاعٌ لم نبلغ العشرين. ولم يكن ذلك بوحي من فلسفة المهاتما غاندي؛ فذلك في طبعنا ومزاج شعبنا؛ أن نقاوم الغطرسة والتسلّط بالاحتقار والصمت، ثمّ إذا فاض الكيل وعيل الصبر، نهبّ فجأة، كما يفيض نهر النيل وتهب الأعاصير في صحراء العَتْمور، فعلنا ذلك مع الأتراك ومع الإنجليز ومع الحكام الوطنيين أولاد البلد”..
ردة فعل الشاب مع مستر كلارك والشاويش عوض مع ضابطه وتلاميذ المدرسة مع معلمهم الإنجليزي أوضح تعريف لمصطلح “حماقة سودانية” أو “ركوب الراس” بلغة الشباب اليوم، وهو ذات ما ينتهجه السودانيون اليوم مع المجلس العسكري الانتقالي، فبرغم القتل والسحل والعنف الذي قوبل به المعتصمون أمام “قيادة الجيش” ما زال الشعب مصرًا على إرساء الديمقراطية وإيقاد شمعة الحرية والدفاع عن ثورته من السارقين الإقليميين، وفي سبيل ذلك لا يمانع بذل الأرواح وطلب الموت والشهادة؛ كما يصور ذلك الفيديو الذي يُظهر شبابا وهم يصدحون: “يا الله الموت/ موت ما عادي/ موت في رمضان/ بدوشكا كمان/ ومعاو جنّة”.
ففي السودان يتشكل وعي جديد لن يرضى أن يُستبدل حلم التحول الديمقراطي “الذي هُوَ خير” بمصالح قوى الشر الإقليمية “التي هي أدنى”.. فشعبنا كما قالت قواه الثورية (كطائر الفينيق ينهض فارداً أجنحته، نافضاً عنه الرماد، لا ملجأ ولا عاصم منه إلا رد أمره إليه).