قبل أن تقرأ:
ننوه إلى أن المعلومات التي وردت في هذا المقال مستقاة من مصادر موثوقة، حُجب اسمها بناء على رغبتها، كما حجبنا جزء من المعلومات لخطورتها على المصادر راهناً
فتحي الضَّو
منذ أن توقف قطار الثورة في العقبة، دأب الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري الفريق شمس الدين كباشي على عقد مؤتمر صحافي بين الفينة والأخرى، اتفق بعض المراقبين على أن السمة البارزة لتلك المؤتمرات، يغلب عليها الأداء التمثيلي، واستدلوا بطريقة المذكور في تدوير أحاديثه بصورة مُملة، لا تروي ظمأ ولا تشبع رغبة. فجنحوا في التفسير إلى أنه – مثل رفاقه – استمرأوا بهرج السلطة وبريقها، ولكن كثير من أولئك المراقبين كانوا لا يعلمون أنها سيناريو لمسرحية من تأليف خفافيش الظلام، المختبئة في أوكارها منذ اندلاع الثورة وما تزال تمسك بتلابيب الأحداث وتديرها كيفما اتفق. كان آخر تلك المؤتمرات يوم الخميس 13/6/2019 والذي استحوذ على أنظار الناس تحديداً، لا لشيء سوى أنه جاء في أعقاب فض الاعتصام بتلك الصورة الهمجية. وفض الاعتصام هو الحدث التراجيدي الذي زلزل كيان أهل السودان وراح ضحيته أعداد غفيرة، لم يكفها الموت حاجباً للحياة، ولكنها مضت إلى رحاب ربها ولا أحد يعرف عددها حصرياً حتى الآن!
(2)
كان الحدث موجعاً ومفجعاً للدرجة التي لم ينتبه فيها الناس إلى أن الكباشي الذي أدمن الظهور جاء مؤتمره ذاك بعد عشرة أيام من المأساة. وتعد هذه فترة كافية لأي مبتدئ في عالم الإجرام لكي يقوم بطمس جريمته ورسم سيناريوهات تبرئته بحنكة، فما بالكم والجاني ممن تمرس على الكذب والخداع والتضليل؟ كما تعد فترة العشرة أيام في مثل هذه الجرائم دهراً، فلا غرو أن نطق المذكور كفراً. إذ قال إن قرار فض الاعتصام كان جماعياً، وللدقة مضى في تسمية الذين حضروا حفل الشواء، وعلى رأسهم رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) وبقية الأعضاء (المبجلين) بمن فيهم سعادته، ومدير الشرطة ونائبه، ومدير جهاز الاستخبارات ونائبه، ورؤساء أركان القوات المسلحة، إضافة إلى رئيس القضاء عباس علي بابكر والنائب العام الوليد سيد أحمد. نزلت تلك الشهادة كالصاعقة على رؤوس سامعيها. وليت السامعين يعلمون أنه لم يكن سيجرؤ على نطقها لولا تلك البندقية المصوبة على رأسه!
(3)
على إثر ذلك الاعتراف، مرة أخرى انشغل الناس بالنوافل وتركوا الفروض. فراح بعضهم على بعض يتساءلون. ما الذي حدا بالفريق الكباشي أن يدلي بذلك الاعتراف الخطير؟ (يقولون الاعتراف سيد الأدلة) هل كان يعي ما تقوله هذه القاعدة القانونية التي يعلم بها حتى راعي الضأن في الخلاء، ناهيك عن أن أهل القانون أنفسهم كانوا حضوراً يومذاك؟ وظلت الأسئلة تترى.. هل كان الكباشي يجهل مآلات ما قال؟ ولماذا شكك الشعراء في قواه العقلية باعتبار أن ما قال يندرج تحت باب الجنون؟ ولماذا قال الغاوون إنه أراد هدم المعبد بالطريقة الشمسونية، عليه وعلى رفاقه؟ هل كان يعبر عن يأس؟ وكيف تم طبخ الموضوع أصلاً في الصوالين المغلقة؟ ألم يكن الناطق الرسمي يعلم أن حديثه موثق من خلال تقنية لا يُظلم عندها أحد؟ أم أن يا ترى ظن ألا مناص من الكذب بعد أن انكسر الإناء واندلق اللبن؟ قليل من الناس وجد في التراث السوداني ملاذاً وقالوا (ما بجبرك على المُر إلا الأمرَّ منه) لكنهم لا يعلمون أن الأمرَّ هو تلك البندقية المصوبة على رأسه؟ أو إن شئت فقل رؤوس السبعة العظام؟
(4)
مرة ثالثة ينشغل بعض أهل السودان بحرمة دم البعوض في زمن نزلت فيه الدماء مدراراً على تراب وطنهم. لم يسأل أحدٌ أحداً أين صلاح عبد الله محمد صالح الملقب بـ (قوش) علماً بأن المذكور كان له نصيب وافر من تلك الدماء التي جرت أنهاراُ. والمذكور يعد بمثابة الصندوق الأسود الذي يختزن في داخله أسراراً تشيب لها الأجنة في الأرحام؟ ألم يكن المذكور من المتوضئين بالدماء، المتمضمضين بالأكاذيب، المتهجدين في محراب عصبته إفكاً في السنوات العجاف؟ أليس المذكور هو من حمل كل أسرار السودان في (فلاشة) صغيرة وقطع بها محيطات وبحوراً وأنهاراً واستودعها عند من لا تضيع ودائعه؟ أليس من الغريب أن يقدم استقالته في اليوم التالي للثورة مثل أي موظف محترم في دولة محترمة، ويمضى في خفة الفراش في حين أن جسده مثقل بآثام عظام؟ بل أليس الأغرب أن يكون الوحيد الذي يقدم استقالة في دولة الصحابة قبل أن يستبين الناس ليلها من ضحاها؟ كيفَ ارتدى طاقية الإخفاء في وضح النهار وتعمد الظهور لماماً في عدة أمكنة في وقت واحد؟ وفي تمثيلية سمجة لم يتابع فصولها أحد، أُرسل لمنزله وكيل نيابة لكي يأتي به راسفاً في الأغلال، فإذا بحراس المنزل الخالي يصوبون ذات البندقية على رؤوس كل من يجرؤ على الدخول. في حين أن سيدنا البرهان لو أراده حقيقة، لجاء به الهدهد قبل أن يرتد إليه طرفه.
(5)
مرة خامسة تغفو الطيور في وكناتها. فبعد أن ترك قوش (الجمل بما حمل) لم يمض أسبوع على تعيين نائبه الفريق أبو بكر حسن مصطفى دمبلاب مديراً لجهاز الأمن والاستخبارات، فطار إلى القاهرة يوم 20/4/2019 في مهمة تعلو على كل المهام. حيث التقى رئيس جهاز المخابرات العامة المصري اللواء عباس كامل أولاً ومن ثمَّ الرئيس عبد الفتاح السيسي في اليوم التالي. وكان يحمل معه في حقيبته أو جعبته – سيان – موضوعاً واحداً، هو كيفية تفريق الاعتصام الذي انتظم أمام القيادة العامة منذ يوم 6/4/2019 بحسبه الوسيلة التي أدت إلى خلع المشير عمر البشير وسلفه وتهدد ثالثهما بالسقوط. وفي واقع الأمر كان الاعتصام المتزايد حينها يوماً إثر يوم أمراً مقلقاً للمجلس العسكري، عندئذٍ دخل في الخط الفريق أول صلاح عبد الله قوش مايسترو خفافيش الظلام، وأشار من مكمنه بضرورة الاطلاع على تجربة القاهرة، ليس ذلك فحسب بل تعمد أن يكون حضوراً بنفسه. ولمصلحة القارئ نقول طبقاً لمصادرنا إن ثمة ثلاثة فقط يعلمون كل صغيرة وكبيرة عن ما يُسمى بكتائب الظل، وهم علي عثمان طه وصلاح قوش وأحمد هارون. لأجل هذا اتجه الثاني والثالث إلى السيد الصادق المهدي عشية سقوط المشير، وتلك قصة رواها المهدي مراراً وتكراراً، ولا أدري ما إذا كان قد دار بخلده السؤال القائل: لماذا اختاراه تحديداً؟
(6)
بعد أربعة أيام وتحديداً في 24/4/2019 حلَّ الفريق أول عبد الفتاح البرهان ضيفاً على القاهرة التي غادرها زميله أبو بكر دمبلاب حاملاً من الأفكار ما خف وزنه وغلا ثمنه، ولم يجد مضيفو البرهان بداً من ذر كلمات التطمين على أذنيه، بعبارات يظنها ذوو الخلق القويم أوزاراً، في حين يعتقد المدلسون إنها محض ضرورات تبيحها المحظورات. على كلٍ عاد البرهان وعرض ما توصل إليه مع مجلسه العسكري باعتباره (الخطة ب) التي تؤخذ من الأضابير وتنفذ متى ما دعا داعي (النضال) ضد المعتصمين. بيد أن الخطة (ب) لقيت استحساناً من الجميع إلا كائن واحد سيحتار الناس في أمره بعد حين. في غضون ذلك مضى قطار التفاوض بين الفرقاء وهم لا يلوون على شيء، يتسارع حيناً حتى يظنه الرائي أنه قاب قوسين أو أدنى ثم فجأة يبطئ بأيد خفية حتى يبلغ التفاوض الدرك الأسفل من الانهيار. وبدا للمراقبين لكأنما الصوم وصيف الخرطوم الغائظ حرما الناس من أن يسألوا سؤالاً مشروعاً.. وأين الرجل الخفي؟
(7)
كانت هناك حرب أخرى خلف الكواليس، إثر تمدد طموحات حميدتي عندما خالف تعليمات الرئيس المخلوع، في الوقت الذي صمت فيه الأعضاء التسعة للجنة الأمنية (وكان في المدينة تسع رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) عندئذ شعر بأنه زاد عليهم رتبة ورصع مزيداً من النجوم على كتفه والنياشين على صدره. وعندئذ سولت له نفسه بأنه القادر على اعتلاء هرم السلطة وأغراه في ذلك ضعف الخالع والمخلوع، وعندئذ أصبحت لحميدتي شخصيتان، (دكتور جيكل ومستر هايد) واحدة أراد أن يطوي بها الماضي بكل آثامه، والأخرى توهم بها رئاسة الدولة السايبة، فقد لمس قدرات المخلوع بنفسه، فبرغم تواضعها قبض بها على زمام السلطة لثلاثة عقود زمنية. أما الخالعين الذين أمامه، يجري عليهم المثل السائد (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) في واقع الأمر كانت تلك معادلة صفرية أخفت لحميدتي عيوبه لدرجة توهم فيها أنه المهدي المنتظر. أوليس هو الذي استدانت منه دولة المشير مليارات الدولارات؟ أوليس هو من يمتلك جبلاً يستخرج منه ذهباً يسلب بريقه العيون؟ أوليس هو من يمتلك جيشاً يزيد عن ثلاثين ألفاً من الجنود الأشداء الذين لا يعصون له أمراً؟ من أجل كل هذا حدثت المفارقة المخزية، فبينما الفرقاء يتحاورون حول قسمة السلطة في الصوالين المغلقة، كان حميدتي قد شرع في ممارستها في الهواء الطلق فعلياً دون أن يطرف له جفن، وأجراها على ساقين. الأولى ترهيباً لرهطه داخل الصوالين المغلقة، للدرجة التي حدت به ذات ليلة ليلاء احتدم فيها النقاش أن يضع غدارته (تُطلق على المسدس باللغة الفصحى) على الطاولة أمامه وقال لهم نقسم على عدم الخيانة. أما الساق الثانية فقد جرت ترغيباً للرعية بالمال المُهدر، بحسبه رجل الدولة القادم الذي ستأتيه الخلافة تجرجر أذيالها!
(8)
في بداية الأسبوع الثالث من شهر مايو عزمت خفافيش الظلام على فض الاعتصام، ولكن حميدتي رفض فضه بالقوةـ ليس حباً في سواد عيون المعتصمين، ولا انحيازاً لنفحة إنسانية غشت قلبه. فهو يعلم أن القتل عنده أهون من جرعة ما، ويعلم أيضاً أن أياديه ملطخة بالدماء ولن تتكدر نفسه سواء زادت أم نقصت. حينها خلع جلباب مستر هايد وارتدى جلباب دكتور جيكل، وعزم ألا يسمح لأحد أن يذكَّره ذاك الماضي اللئيم، ومن ثمَّ طفق ماشياً في طريق (أحلام ظلوط) لا سيما، وقد زاره رؤساء بعثات دبلوماسية لدول إذا عطست الواحدة شمتتها نصف الدنيا. ثمَّ مشى جزلاً على بساط أحمر يسر الناظرين، وجالس مليكاً تخضع له الفرسان. لكن بالمقايل أدرك أن الشيء الوحيد الذي يحول بينه وبين اعتلاء تلك العتبة العالية هو فلول النظام القديم من الإسلامويين، أي خفافيش الظلام التي كانت في عجلة من أمرها لفض الاعتصام، خاصة وقد وضعت خطتها كاملة وشاملة سيناريو (كولمبيا) وتريد أن تجعل منه (حصان طروادة) ولكن عندما وضع الأمر بين يديه، فرض عليهم اجتماعاً موسعاً حضره تحديداً كل الذين ذكرهم الكباشي في مؤتمره، وزاد عليهم حميدتي برئيس القضاء والنائب العام، ظناً منه – لبساطته – أن ذلك سيدرأ عنه شبهة المشاركة في الجريمة!
(9)
جاء المذكورون بقضهم وقضيضهم واجتمعوا في وزارة الدفاع منتصف نهار يوم 25/5/2019 واستعرضوا الخطة (ب) ولا داعي لتكرار ما صدر عن رئيس القضاء والنائب العام من ملابسات لا تغني ولا تسمن من جوع. المهم أنهما بحضورهما ذاك الاجتماع ذبحا السلطة الثالثة قبل أن تذبح كتائب الظل المعتصمين. وافق الجميع على الخطة بمن فيهم حميدتي الذي كان متمنعاً في البداية، ولكنه اشترط عليهم أن تكون ساعة الصفر بيده، فوضعت الخطة قيد التنفيذ لوقت غير معلوم. من المفارقات أن المفاوضات انهارت تماماً فجر اليوم التالي الاثنين 26/5/2019 واتفق على تكوين لجنة مشورة لتقريب الشقة بين الطرفين، وتلك كانت قاصمة الظهر، حيث إن خفافيش الظلام المختبئة في أوكار بعض أعضاء المجلس العسكري، بدأت تدرس تنفيذ الخطة (ب) فبدأ حميدتي أو دكتور جيكل يستشعر مكائد إخوة يوسف، وشرع يزايد خلال ذلك حتى ارتكب خطأ استراتيجياً استغله خصومه الذين همو خلف الكواليس. فنظراً لأنه غرير، ونظراً لأنه لا يعلم ما السلطة ودهاليزها، ونظراً لافتتانه بها، أصبح يكثر من الظهور ويكثر من الكلام في معارك دونكشوتية ضد طواحين هوائية لا يراها أحد. وهؤلاء وجدوها فرصة عظيمة في وضع أثقال على كاهله لا يقوى على حملها نسبة لقلة تجربته في هذا الميدان، أو ربما لأنه كان يخوض معاركه أصلاً في العراء وليس في الغرف المظلمة.
(10)
قفزاً على تسلسل الأحداث، عند اقتراب ساعة الصفر يوم الأثنين 3/6/2019 أبدى حميدتي رفضاً صريحاً عوضاً عن التمنع، وفي واقع الأمر رفضه هذه المرة كان مبنياً على وعد أعطاه لشخصية اعتبارية لها وزنها المجتمعي بعدم فض الاعتصام. كان ذلك قبل ساعات قليلة من بداية حملة (الدفتردار) الثانية. لكن خطة فض الاعتصام مضت بالصورة المأساوية التي رأيناها وعايشناها ولم يكن ثمة مفر من أن يتحمل حميدتي وزره. فالخطة استندت على تغبيش المشاركين – إن جاز التعبير – فقوات الدعم السريع ارتدت زي الجيش والعكس، وقوات من الشرطة حلت محل الدعم السريع في أماكن بعينها، وعربات الدعم السريع تم استخدامها من جهاز الأمن، وأفراد من جهاز الأمن الوطني لبسوا زي الشرطة، ثم دخلت في تلك المقاصة قوات الأمن الشعبي والأمن الطلابي والأمن الشبابي وآخرون لا تُعرف لهم هوية. خلاصة إن الجريمة النكراء هذه قامت بها الحركة الإسلامية، ولن تبرؤها مشاركة حميدتي من عدمها، طالما هو في الأصل صنيعتها.
(11)
أحاديث الغدارة والخيانة وساعة الصفر، حدت بحميدتي لأن يصمت لأكثر من عشرة أيام من تاريخ المجزرة، تقول المصادر إن فلول الإسلاميين لن ينسوا له قلب ظهر المجن، هو يعلم أنهم يكيدون له كيداً، كما يعلم أنهم يخططون بعد اكتمال الخطة لتسديد طعنة نجلاء تُفرِّق دمه بين القبائل. وهو يعلم كذلك أن رأسه ستتدحرج قريبا إذا غفت عينيه لحظة. سوف يستغلون تلك الحماقة التي تقبع في سويداء قلبه لكي يجرونه لمعترك يلقى فيه حتفه بظلفه. هم يعلمون طموحه ومدى شغفه بالسلطة، وسيعملون من أجل أن تكون تلك مقبرته. يقولون إنه بدأ ينتبه لمكائدهم ولكن بعد فوات الأوان، فقد تورط من أخمص قدميه حتى سبائب شعره. ويعلم أن ثمة معركة قادمة ستكسر فيها العظام، عندئذ لن يكون هناك احتمال ثالث، فالطرفان إما قاتل أو مقتول. لن يستطيع حميدتي التراجع بل سيمضي فيها قدماً وهو يعلم مصيره. إنها الورطة التي جعلت سيناريو ليلة السكاكين الطويلة متاحاً. عندئذ سيكف الناس عن أداء النوافل ويقبلون على تلبية الفروض، ولن تجد من سيسأل عن حرمة دم البعوض، لأن الدماء ستكون حينها قد سالت أنهاراً… أو كما قيل!!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com