إستمعت بالأمس – مثل الكثيرين غيري – لخطاب رئيس المجلس العسكري الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أمام بعض العاملين والعاملات من كوادر المهن الطبية. ولأني لم أشاهد الرجل من قبل بمثل هذه الفورة وهذا الغضب وهذا الصراخ فقد آليت على نفسي أن أصبر لأرى وأسمع ماذا يقول. ثم إنني أعدت المشاهدة بعد فترة قصيرة لشريط الفيديو، حتى لا أكتب إن كتبت ما يحسبه البعض تحاملاً على الرجل ومؤسسته التي تخوض حرباً ضروساً منذ 6 أبريل من أجل أن ترث سلطة ولي نعمتها عمر البشير الذي جلس على سدة الحكم بقبضة فولاذية لثلاثين سنة. واليوم – وبعد أقل من 24 ساعة على البث الحي للقاء رئيس المجلس العسكري الذي نفث فيه كل غضبه وخوّن فيه من خوّن – عدت لأكتب ما أحسبه تذكرة للجنرال البرهان ومن جاءوا معه بكذبة أنهم جاءوا ليحموا الثورة السودانية.
عدت للفيديو فوجدت أن يد السطو التي ما فتئت تسرق مقدرات البلاد بل وأعمار الناس على مدى ثلاثين سنة قد سطت على الشريط نفسه وبترت منه عبارة كانت محل تندر شعبنا يوم أمس كله. أعدت الشريط مرات ومرات فلم أجد غير نص يبدأ بداية اجتزئ ما قبلها ، بحيث وضح لأقل الناس خبرة بمشاهدة الفيديوهات أن يدرك أنّ ما يشاهد من خطاب، إنما هو مواصلة لكلام سابق تم حذفه بفعل فاعل. ولأني لست بصدد الفاعل الذي أقدم على سنسرة الفيديو بغباء يرثى له ، فقد عرفت مثلما عرف غيري أن العبارة التي حذفت هي التي “دقس” فيها الجنرال وهو في قمة غضبه وحماسه ، وجمهوره المنتقى بعناية يكثر من التصفيق بمناسبة وبدون مناسبة. كانت تلك العبارة كافية أن تفضح نواياه ونوايا زمرته ممن سرقوا أعمار شبابنا العزل ، فبقيت الجريمة عارية مهما غطوها بثياب الأكاذيب والخطب الجوفاء ! دقس الجنرال البرهان وهو في قمة حماسه حين توقف فجأة عن سرد تفاصيل الجريمة ، ليقول (ثم حدث ما حدث)!! العبارة التي تعني في أي لغة محكية (وكلكم تعرفون ما جرى And so it happened)!!
ولأن شعبنا يا سعادة الفريق أول ما يزال تحت مفعول الصدمة ، ولأنّ دماء شهداء المجزرة البشعة لم تجف.. المجزرة التي اعترفتم على الملأ بأنكم من خطط لها ونفذها – غض النظر عن التجاوز أو عدمه – فإنّ عبارتك كانت واحدة من زخات الرصاص التي جاءت متأخرة لا لتقتل واحداً من شهدائنا وشهيداتنا الذين كان معظمهم في عمر الورد ووداعة النسمة- عبارة “وقد حدث ما حدث” لم تخترق قلب شهيد بل اخترقت قلوب الملايين من أبناء وبنات شعبنا الذين كانوا يتابعون بدهشة حماسك غير المبرر وأنت تبحث عن تبرئة لقواتك (فوق العشرة آلاف جندي) ليطوقوا ساحة الإعتصام ويمطروها بوابل الرصاص الحي في الساعات الأخيرة لفجر التاسع والعشرين من رمضان! وفعلاً “حدث ما حدث” !! في عالمٍ أصبح فيه للحائط والشارع آذان وعيون!
هكذا بمنتهى البساطة حدث ما حدث ، وأن علينا أن نتقبل هذه الجريمة البشعة ، وكأنها في تصوركم أمر عادي يحدث في المعارك التي ترفع عقيرتك في الصالة بأنك قضيت فوق الأربعين سنة تخوضها من أجل الوطن!! كذا؟ أنت وكل جنرالات الجيش السوداني منذ أن صار اسمه قوات الشعب المسلحة بعد الإستقلال – وعلى مدى 63 سنة لم تحاربوا غير شعوب السودان ، بدءاً بحرب دامت نصف قرن في الجنوب الذي فصلتموه، مروراً بحربكم على شعوبنا في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان وانتهاءاً بأمهات المجازر في دار فور!
ولأنّ اللغة لها مقاصدها ومزالقها يا سعادة الجنرال ، فإن محاولتك استدراك هفوتك البشعة بأن تقول بعدها بوقت قصير بأنكم حريصون أن تقدموا أي شخص للعدالة مقابل موت شخص واحد لأن أي سوداني عزيز عليكم، هذا الإستدراك لم ينطل على شعب صنع بوعيه المدهش ثورة سلمية أدهشت العدو قبل الصديق!
أما أن تقول بحماس من يرفع معنويات جنوده وهم على أهبة خوض معركة بأن القوات المسلحة (عصية أمام كل خائن وكل عميل)، فتلك حجة مرتدة عليك . فالقوات المسلحة التي ذكرت بأنها و قوات الدعم السريع (الجنجويد) ، ومليشيات الدفاع الشعبي وقوات الأمن والشرطة – أن هذه كلها موحدة وكلها على قلب رجل واحد ، نقول لك بأنها هذه القوات هي التي قلبت عيد السودانيين داخل وخارج الوطن – وربما لأول مرة في تاريخ بلادنا – قلبت يوم العيد إلى يوم حداد . لم يقم سوداني واحد حسبما نما إلى علمي داخل وخارج السودان بالإحتفال بطقوس عيد الفطر المبارك ولو بشكل رمزي. أزلتم البسمة من شفاه أطفالنا أزال الله إسمكم من أرضنا السمحة الطيبة.
وأخيراً يا سعادة رئيس المجلس العسكري، فإن قواتك التي تتباهي بها أمام حشدك المنتقى في صالة مزودة بالكراسي الوثيرة وبمكيفات الهواء وبكل ما لذا وطاب، قواتك التي تقول بأنها (عصية أمام كل خائن وكل عميل) ، هجمت في نهاية شهر الصوم الفضيل على شباب عزل وعلى فتيات وأطفال وهم نيام. قتلت واغتصبت وألقت جثثاً في النيل بعد أن قيدتها إلى كتل صخرية ثقيلة حتى لا تطفو. قواتك “الباسلة” أحرقت الخيام على أطفال وشباب كانوا نياماً، لأنهم – ولسماحة ما تربوا عليه – صدقوكم حين وعدتموهم بأنكم لن تفضوا الإعتصام السلمي. الإعتصام الذي كان هو الصورة المصغرة لسوداننا المدني القادم والذي تخافه وترجف من صورته النضرة خفافيش الظلام ..لذا كان هذا الهجوم الوحشي الفظيع، لتقع مجزرة ستظل تحاصركم في نومكم وصحوكم إن كانت لكم ضمائر !
المفارقة المخجلة يا سعادة الجنرال أن قواتك التي وصفتها بأنها عصية على كل خائن وكل عميل شنت هجومها وما تزال تطارد المواطنين العزل في الشوارع باسم استباب الأمن والنظام و”الغانون”، بينما تغض الطرف خوفاً أو خجلاً – لست أدري- عن أراضٍ سودانية تعرفون أنها تحت الإحتلال !!
fjamma16@yahoo.com