قرأت كثيراً في أدب
وتاريخ الثورة الفرنسية العظيمة، وكنت ولا زلت من المعجبين بها لما تركته من دروس مهمة، وطرحته
من شعارات مؤكدة قيماً سماوية وإنسانية فاضلة، مثل: الحرية والعدالة والمساواة
والمواطنة التي كانت من مطالب الثوار، وأسست عليها فيما بعد دساتير ومواثيق العقد
الاجتماعي لكثير من الدول الأوربية فارتقت بها أنظمه حكمها مستوعبة تطلعات شعوبها
فتحقق الاستقرار.
تعالوا معي نستعرض كيف
أدى اختلاف قادة الثورة الفرنسية حول برنامج ما بعد نجاح الثورة، مما أدى إلى حدوث
فظائع لا تقل في هولها عن تلك التي استفزت جماهير فرنسا وجعلتها تنتفض في وجه ظلم
أباطرة ولوردات الإقطاع.
الحقيقة تقول إن
الثورات الناجحة ليس لها مراحل ذات تسلسل منطقي مرسوم بدقة رغم أن لها شعارات
وأهداف محددة لكن حراك وتطور الثورة يقوم على منطق الفوضى الخلاقة. فهي تفرز
قياداتها وتعدل في برامجها المرحلية حسب مقتضى الحال. لكن من أهم آلياتها الشرعية
الثورية واستخدامها في كنس وتنظيف طريق ما بعد نجاح الثورة (وهذا ما تفتقده ثورة
١٩/ ديسمبر)، ولكن بالضرورة، فإن الشرعية الثورية يجب أن تكون محددة المدة
والاستخدام. بعدها تنتقل مباشرة إلى مرحلة هيكلة الدولة الوطنية والتأسيس والبناء
التي يسودها العقل والحكمة والقانون مع إعلاء قيمة الوطن فوق كل الاعتبارات
الأخرى.
يقول الكاتب جوستاف
لوبون ” في زمن الثورات إياك أن تقدم النصح للجماهير .. اياك ان تدخل معهم في
جدل منطقي… إياك أن تطلب منهم التعقل أو الوعي”.
نعم هذا واقع ونعيشه
اليوم في ثورتنا العظيمة وفي رأيي أن شعارات الثورة وأهازيجها غالباً ما تفرض
وتحتم على الفرد التمشي مع العقل الجمعي للثوار، والانسياق خلف آراء وعواطف جمهور
الثورة خاصة إذا كان هناك من يوجهها من على البعد لغرض مدروس، وفي هذه الحالة
سيكون الثوار في حالة تلقي وتلقين عن طريق شعارات جاذبة حتى لو كانت غير قابلة
للتطبيق. فالشعارات الساخنة تلهب حماس الجماهير، وتسهم إسهاماً فعالاً في إسقاط
الجبابرة والطواغيت مهما كانت قوتهم، لكن هذه الشعارات غالبا لا تقدم حلولاً
شافية.
فالثورة مهما كان خلفها
من دفع وحماس شبابي أو شعبي فإنها عندما تصل بعض المراحل تحتاج الى مفكرين
وسياسيين متمرسين ذوي خبره في فن الممكن لإعادة بناء الامة وهيكلة الدولة. هذا ليس
تقليلاً من مكانة ودور الجماهير صانعة الثورات لكنها الحقيقة .
فالجماهير الهادرة تحتاج
إلى قيادات بمواصفات محددة لقيادتها. أما مرحلة التأسيس والهيكلة ووضع الدساتير
والأنظمة الحاكمة قطعاً ايضا تحتاج الى قيادات مهنية من الصفوة الوطنية الامينة من
كل الفئات العمرية ممن لهم دراية في فنون بناء دولتهم الجديدة وإدارتها ولكن تحت حراسة
ورقابة جمهور الثورة.
يلاحظ في كثير من
الأحيان ان خوف الثوار المفرط من سرقة ثورتهم أحياناً يحرم ويبعد كثيراً من
الكفاءات والطاقات المبدعة من المشاركة الفعالة والمساهمة في دعم الثورة لبلوغ
مقاصدها النبيلة، ومن ثم يجد الثوار أنفسهم في متاهة العودة إلى نقطة البداية من
جديد.
فالثورة الفرنسية رغم
ما حققته من نجاحات باهرة في إسقاط لوردات الإقطاع والفساد، إلا أن تطرف بعض قادتها
وجنوحهم الى الانتقام والتشفي أدى إلى إدانة ومحاكمة بعضهم وصعود ثلاثة منهم الى
المقاصل و قطع رؤوسهم (روبسير/دانتون/مارا). وهذا ما يعني أن عدم التعقل والدقة في
تحديد واستخدام أساليب كل مرحلة يجلب الفشل.
وهذا ما حدث للثورة
الفرنسية. فبعد عشر سنوات من النضال والتضحيات ورغم سمو ونبل مبادئها، إلا أن
التطرف جعلها تنزلق إلى الفوضى التي غزاها أعداء الثورة فتراجع مدها وألقها، وأيقظ
صراع قادتها نابليون الدكتاتور الجديد من منامه لينقض عليها، وصفق له ذات جمهور
الثورة وهو يلغي الحريات ويحكم البلاد بيد من حديد؛ بحجة اعادة الأمن، وإنهاء
الفوضى التي في نظره استمرت عشر سنوات رغم تضحيات الثوار.
إن ثوار ديسمبر وابريل
الثانية بحاجة إلى من ينصحهم ويقدم لهم المشورة، ويقيني ان حكماء بلادي وقادتها
التاريخيين قادرون على تقديم هذه المشورة والنصح والتوفيق بين مكونات الوطن مدنيين
وعسكريين لكنهم يتحفظون ويترددون في ذلك؛ لأن هذا الطريق محفوف بالمخاطر أقلها
تهمة السعي إلى اختطاف الثورة والتخوين والعمالة وخيانة دماء الشهداء. ولكن رغم كل
هذه المخاوف والمخاطر فإن الواجب الوطني يحتم عليهم تحمل المسؤولية بتقديم
المبادرات والمشورة للثوار.
أما المهمة الأصعب هي:
كيف لنا أن نقنع الجنرال؟
أولاً لا بد من الإقرار
بأن الجيش ضلع مهم في مثلث الوطن وله أدوار ومهام وطنية عظيمه يقدرها له
الشعب، بناءً على تربيته وعقيدته المهنية المتمثلة في حماية المواطن وحراسة حدود
وتراب الوطن، وهم في ذلك يقدمون أنفسهم رخيصة عندما يقتضي الأمر.
وفي الأمس القريب عندما
وجدوا أنفسهم أمام خيار حماية رئيس طاغية على حساب المواطن وقتله، فإنهم انحازوا
للثوار والثورة، وهذا ما جعل الثوار يصفقون لهم ويهتفون “شعب واحد .. جيش
واحد .. ماهمانا حميدتي معانا” وما أعظم ذلك التلاحم عندما يصدق.
للأسف، كما يقول المثل
الشعبي: “الطول فيها الهول”، فتباطؤ الخطى نحو استكمال وقطف ثمار
الثورة بهيكلة الدولة و ملء الفراغ الدستوري أعطى الفرصة لأعداء الثورة من
المفسدين الذين عبثوا بمقدرات البلاد وكانوا يخشون أن تطالهم محاكم الثورة فشوشوا
لقيادات المجلس العسكري، ومع تداخل الاجندة الاجنبية فافتعلوا أزمة موقع كولومبيا
الذي ولد وترعرع في زمن الإنقاذ دون أن تمسه يد التصحيح فدخلوه ثم تخطوه، وغدروا
بشباب سلميين عزل في شهر رمضان الكريم، كانوا يعتقدون أنهم في ضيافة وحماية قواتهم
المسلحة فسقطت جثثهم الطاهرة قتلاً واغراقاً في النيل البرئ من الجريمة.
اللهم ارحمهم وتقبلهم شهداء وصبر أمهاتهم التي
سكبت دموعاً سخينة لم يتوقف سيلانها فانقلب العيد الى مآتم وساحات أحزان.
ان فض الاعتصام بهذه القوة
المفرطة والانتقام هي نقطة اللاعودة وفقدان الثقة بين الشعب والعسكر، التي ستكون
عصية العلاج.
ومع ذلك فالحال يجبرنا
على البحث عمن يستطيع إقناع الجنرالات أن الشعب والثوار ليسوا عدوهم، بل الجميع
شركاء لا متنافسون، كل بقدر في صنع ونجاح الثورة وبناء الوطن، ولا داع لسماع نغمة
عسكر وملكية، وتبادل عداءات مفتعلة قد تطيح بكل الوطن.
ولا يعقل أن يهدم
المعبد بعد أن تم التوافق والاتفاق على ٩٥% من المختلف عليه، وكاد الشعب ان يحتفل
بتحقيق أحلامه.
وننبه أن استمرار عدم التوافق و المغالية بين
طرفي المعادلة قطعاً سيولد نابليوناً وديكتاتوراً جديداً في محاولة الحكم بالحديد
والنار، لكن يقيني الراسخ أنه لن يستطيع ترويض شعبنا العظيم المعلم لكن الوطن
سيخسر الكثير، فهل سيقبل الثوار النصح ويقتنع الجنرال؟