تداولت وسائل التواصل الاجتماعي القصة التي روتها إحدى الناجيات من مذبحة القيادة العامة في يوم فض الاعتصام..
تحكي قائلة:
الرابعة والنصف صباحاً بتوقيت ساحة الاعتصام:
أهازيج من الفرح والثبات من كل الثوار مع تصاعد الاتصالات المحذرة بأن العصابة القذرة قد جمعت لكم من القوات ما يكفي للقضاء عليكم، فما زادنا الا ايماناً وتشبثاً بمطالبنا. ضحكت ملء قلبي … ورددت: (كل يوم بقولوا كدا وما بحصل شي). غادرت الخيمة الى أخرى بها حلقة الذكر اليومية وختمة القرآن على أرواح الشهداء السابقين والدعاء. أقمنا الصلاة وسجدنا لمالك الملك، لم نظن أبداً إنها ستكون صلاتنا الأخيرة هنا. دعونا الله كثيراً ثم تفرقنا لخدمة الثوار والسحور. هذا المكان الذي جمعنا ما ظننا قط أنهم سيفرقونا عنه بهذه الوحشية.
الخامسة والربع:
الرجال مرابطون عند الترس، والنساء لزمن الخيم والقليلات يتجولن في الخارج ..لا أدري أيكون من حسن حظي أم سوئه .. كنت في الخارج أجري مكالمة هاتفية … أطمئن أمي ألا شيء سيحدث وأني سأعود قبل الرابعة عصراً لأكمل أعمال المنزل. ما إن اغلقت هاتفي حتى بدأ عدد من السيارات بالدخول من بوابة القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، أكتب “للشعب: على استحياء فما رأينا أنها للشعب ابداً. لقد خدعونا وتقاسموا معنا لقمة العيش والفرح وأناشيد الثورة، عبثاً بنا فعلوا ذلك بيدهم اليمنى وكانوا يحملون خنجراً مسموماً بيدهم اليسرى. ينتظرون الوقت المناسب لغرسه في صدورنا واقتلاع أحلامنا .. واجتثاث قلوبنا. ثم امتلأ المكان بالكثير الكثير .. وقف الثوار على قارعة الطريق يرددون: مدنياااا مدنيااا … والغادرون يتوافدون كما الضباع التي أتتها الفرصة للانقضاض . ربما لم يصدقني أحد وقتها ولكني هتفت بصوت عالي (خونه ومنظركم لا يبشر بالخير) وبعد أقل من عشر دقائق بدأت الأصوات تعلو، لكن الثبات سيد الموقف وقديماً قالوا الأحرار لا يهابون الموت، لكن ما اسوأ الخيانة.
إنهال وابل من الرصاص على الجهة الأخرى في شارع النيل، يبدو انها كولمبيا كما يزعمون ..هرع العديد من الثوار ليعرفوا ماذا يحدث واذا بهم ينهالون عليهم بوابل من الرصاص والعصي واسوأ ادوات الحرب وحشية .. حرب غادره في صباح ظننا أنه ستنجلي بعده الغمه ..لكن من يأمن شر عصابة أيقظت النائمين الصائمين على اصوات الرصاص ثم قتلتهم بدم بارد. لقد تمنيت للحظة ان يكون كابوساً مزعجاً لكنه حقيقة مؤلمة. حين خرجت الى الساحة رأيت الكثير من الشهداء على الأرض، وشلالاً من الدم يسيل ..يا إلهي.
وكان آخرون يمنون أنفسهم بتدخل القوات المسلحة التي كما زعموا اننا في حمايتها لكنني لم اشك للحظة انها خطة مدبره تحت رعايتهم. لقد شارك في ذاك العمل الوحشي البغيض كل من جنجويد المدعو حميدتي وقوات جهاز الامن وقوات مشتركة، لقد اجتمعوا في ليلة ليس بها شيطان وأجمعو أمرهم بينهم ..ذلك يعني أنهم اشد نفاقاً وتعطشاً للدماء من مصاصي الدماء أنفسهم ..وتلك لم تكن وسوسة شيطان بل كانت أنفسهم بحد ذاتها الشيطان الاكبر ..لم يراعوا حرمة الشهر ولا تقاسم لقمة العيش معنا ..لم يرحموا أحد لا أطفال ولا نساء ولا كبار ..انها كانت أكبر تصفية في تاريخ البشرية. لم يكن الغرض تفريق المعتصمين كما يزعم البعض لقد ارادوا إبادتنا حتى لا تنبت أحلام اخرى بالحرية والعيش الكريم..اقتحموا خيمة الطبيبات العلاجية ..ضربوا ونكلوا بكل من سولت له نفسه ان يحلم بالحرية ..تدافعوا علينا كالضباع الجائعة، جنجويد الدم لعابهم يسيل لانتهاك اعراضنا ..لكن الله احدث امراً بعد ان اقسمنا اننا هلكانا واصبحنا في مهب الريح ..تدافع بعض الثوار الأحرار الى الخيمة وأخرجونا من بين ايديهم تحت الضرب والشتم بأقذر الالفاظ ..واستشهدوا مدافعين عن اعراضنا. والله لن انسى تلك اللحظات ما حييت ولن اتوقف يوماً عن الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة. ورب العزة إنهم شجعان بواسل ..أحرار لم يرضوا الذل والهوان لامرأة كريمة.
ركضنا متفرقين الى عدة اتجاهات. كاد قلبي ان يتوقف ذعراً .. تشتت ذهني ولم اعلم الى اين ..الجثث في كل مكان ..النار أضرمت في اغلب الخيم ..على مد البصر .الدماء تتدفق بغزاره .لك أن تتخيل عزيزي القاريء اضطراب مشاعري ..ايقظني من اندهاشي رصاصة جائرة اخترقت جسدي لأفيق من صدمتي. كانت ضرباً من الخيال، شيء من الألم تسلل الى جسدي التعب. وقفت مذهولة!!! أتكون هذه القيامة؟ أم انها الشهادة تناديني لألتقي بربي؟؟؟ اختلطت الأجواء بالبارود والدم بالأصوات… سمعت أحدهم يقول: لا تتوقفي. وما أن تقدمت بضع خطوات حتى فقدت توازني … سقطت على الأرض، وتذكرت أن هناك أحلام لم أعشها، ووطن لم أحرره… إنها النهاية شئنا أم أبينا جميعنا راحلون الى ميقات معلوم.
أغمضت عيناي سريعاً حين أتى أحد الهمج مسرعاً نحوي، قال بصوت تعلوه نبرة الانتصار: (شكلها ميتة). وللتأكد قام بضربي بعصاه أعلى ظهري، لقد كان خياراً صعباً.. إما أن أطلق العنان لصرخاتي لأرتاح، وإما أن يقتلني الألم على أمنية أني سأنجو من بطشهم إن أحسوا بحقيقة موتي. هرولا بعيداً عني … تدفقت الدموع من عيني وامتلأ فمي بالدم والقاذورات. حاولت النهوض لكنني لم أستطع الى ذلك سبيلاً… أحدهم قادم نحوي، إنهما ثائران كنت قد داويت جروحهما قبل أيام… هكذا هي الحياة تعطينا الدروس بأثمان باهظة. حملوني على أكتافهم الطاهرة… والله إنني في سكرة الموت وخشيت أن يحاسبني الله على ذلك. ركضوا بي في اتجاه جامعة الخرطوم، ثم لم أعلم ماذا جرى بعدها… لقد أغشي عليّ من الألم.
حين استيقظت بعد أيام علمت أن أحدهما قد استشهد، والآخر أكمل بي الطريق.
لقد تعافى جسدي منذ أيام، لكن روحي لن تطيب… إن الفجيعة أكبر من النسيان. أنا التي وقفت قوية في كل الظروف، كسروني وحطموني لأشلاء… لكني احتسبت عند الله الأجر. لن أسامح أبداً كل من تورط في هذا العمل من مجهولي النسب والشرف، وكل من ساعد فيه فهو بلا شرف…. أتسائل كيف ينظرون الى وجوه أبنائهم بعد أن تركوا القوارير تتكسر أمام أعينهم دون أن يحركوا ساكناً. بل والأفظع من ذلك أن لهم أصبعاً خلف هذه الهجمة الدنيئة. دعوتي في هذه الدنيا أن أرى الرعب في وجوههم وهم يساقون الى المشانق صاغرين أذلاء… لن يشفي غليل صدري سوى القصاص.
المجد والخلود لكل الشهداء الذين طهروا الأرض بدمائهم.. نحسبهم في الفردوس برفقة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما أنا… فغداً تزهر براعم الأمل في قلبي وأعود الى الثورة.
هي الشوارع لا تخون.