مساء أول من أمس، السبت 22 حزيران/يونيو الجاري، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير عن قبولها لمقترحات الوساطة الإثيوبية بشأن الأزمة الراهنة في السودان. وحسب التصريحات الصحافية لقيادات الإعلان، فإن المقترحات أُخضعت لمناقشات ودراسة متأنية استمرت ليومين قبل أن تتم الموافقة عليها بإجماع كل مكونات قوى الإعلان. واختتم قادة قوى إعلان الحرية والتغيير تصريحاتهم الصحافية بالتشديد على أن القبول بمقترحات الوساطة يعني نقل العملية السياسية في البلاد إلى مربعات جديدة، ويفتح الباب نحو تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المجيدة في الحرية والسلام والعدالة، والتي ضحى من أجلها الشهداء، وتضع البلاد في المسار الصحيح لتشكيل الفترة الانتقالية التي من شأنها وضع لبنات تأسيس الديمقراطية القادمة المستدامة في السودان.
وبصراحة، في هذه التصريحات الصحافية، استوقفتني كثيراً الإشارة، إلى أن موافقة قوى إعلان الحرية والتغيير على مقترح الوسيط الإثيوبي تمت بإجماع كل المكونات، مع أهمية التأكيد على أن الإجماع بين القوى السياسية والمدنية في السودان حول القضايا المصيرية التي تعصف رياحها بالبلاد، ليس حالة نادرة وليس مستغربا من قوى عركتها التجارب وأنضجتها المعارك المحتدمة خلال المنعطفات الخطيرة التي مر بها السودان منذ مراحل النضال ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال، مروراً بمعارك النضال المستمر حتى اليوم ضد الديكتاتوريات ومن أجل بناء سودان ديمقراطي يستوعب ويلبي كل تطلعات مكوناته القومية والثقافية، ويحتفي بتعدد وتنوع هذه المكونات. أما لماذا استوقفتني الإشارة إلى الإجماع كثيراً، فنسبة لما صاحب أمر مقترحات الوساطة من ردود أفعال متجاذبة ومتناقضة بين رافض وقابل، وصلت عند البعض حد التلويح بأن الرجوع إلى التعامل مع المجلس العسكري يعني خيانة دم الشهداء وطعنة نجلاء في ظهر الثورة. وقلت، ربما رفعت كل مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير راية الوحدة كصمام الأمان الرئيس للسير بالثورة إلى الأمام، وتحت هذه الراية، ومن دون أن تحيد عنها قيد أنملة، طفقت تقتل الأمر بحثا في ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، معلية شأن اكتساب حلفاء إقليميين ودوليين للثورة، وباحثة عن زوايا ومواقع ملائمة لأن تسدد منها ضربات جديدة ضد قوى الثورة المضادة. ولكن، وبصراحة أيضاً، لن أكذب وأقول إنه لم ينطفئ القلق في دواخلي، حتى لحظة كتابة هذا المقال وما بعده، خوفا من أن يقوم هذا المكون أو ذاك من مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير بإعادة النظر في حساباته، أو في فهمه لما تم الإجماع حوله، فيبرز منه ما يعكر صفو هذا الإجماع.
نحن، منذ اندلاع ثورتنا المجيدة قبل ستة شهور، أسلمنا أمر قيادتها، وعن قناعة تامة وثقة واعية، لقوى إعلان الحرية والتغيير. وبما أن هذه القيادة المعبرة عن الغالبية العظمى لألوان الطيف السياسي والحراك المدني في البلاد، وافقت بإجماع مكوناتها على مقترحات الوساطة الإثيوبية، فتقديري الشخصي أن ندعم موقفها هذا، لا باعتباره سدرة منتهى نضالات ثورتنا، وإنما باعتباره محطة أخرى من محطات صراعنا الطويل ضد القوى المتربصة لإجهاض ثورتنا ووأدها في مهدها. ونحن لا نقصد بالدعم الإشادة والتصفيق ومجرد التشجيع المعنوي، وإنما الضغط المتواصل حتى يأتي برنامج قوى إعلان الحرية والتغيير للفترة الانتقالية متضمنا الأولويات التالية:
أولاً، أن يكون القرار الأول هو تشكيل لجنة تقصي حقائق من قضاة وقانونيين مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، تٌجري تحقيقا دقيقا حول جريمة مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، حتى يٌقدم للمحاكمة العادلة كل من ساهم في هذه الجريمة مهما كان موقعه.
ثانياً، تصفية أركان دولة الإنقاذ، مؤسساتها وقوانينها وممارساتها، وإبعاد كل قياداتها من مواقع المسؤولية، ومحاسبة كل من ارتكب جرماً في حق الوطن والمواطن، وفق القانون وبعيداً عن التشفي وروح الانتقام.
ثالثاً، وقف الحرب الأهلية وإبرام اتفاقيات السلام مع الحركات المسلحة.
رابعاً، التعامل مع قضية المفصولين سياسيا وللصالح العام من الخدمة المدنية والعسكرية، كأولوية قصوى.
نحن، منذ اندلاع ثورتنا المجيدة قبل ستة أشهر، أسلمنا أمر قيادتها، وعن قناعة تامة وثقة واعية، لقوى إعلان الحرية والتغيير.
خامساً، البدء في تنفيذ كل التدابير التي تحقق قومية أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وإعادة هيكلتها.
سادساً، إطلاق مشروع العدالة الانتقالية والصلح الاجتماعي.
سابعاً، تنفيذ برنامج اقتصادي إسعافي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن، ووضع لبنات مشروع اقتصادي تنموي لإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي.
ثامناً، استعادة توازن علاقات السودان الخارجية.
تاسعاً، عقد المؤتمر الدستوري بهدف التوافق على ثوابت إعادة هيكلة وبناء الدولة، وثوابت الدستور الدائم.
عاشراً، التوافق على قانون انتخابات ديمقراطي يلائم واقع بلادنا.
أما على الضفة الأخرى، وحتى كتابة هذه السطور، فإن موقف المجلس العسكري تجاه مقترحات الوسيط الإثيوبي جاء مغايراً للموقف الإيجابي والوطني لقوى إعلان الحرية والتغيير. صمت مريب من أعضاء المجلس، إلا نائب الرئيس الذي عبّر بكل وضوح، ومن خلال الحديث المباشر أمام حشود مزيفة، مثلما كانت تصطنع إبان النظام البائد، عن طرح يناقض ويرفض ليس ما أتت به الوساطة الإثيوبية وحسب، بل وما أتت به الثورة ودماء الشهداء. وليت الأمر اقتصر على الرفض تعبيراً وقولاً، بل تعداه إلى كبت الحريات والممارسات القمعية والتعامل الفظ مع الندوات واللقاءات الجماهيرية التي تدعو لها قوى إعلان الحرية والتغيير، وتسخير الإعلام أبواقا للثورة المضادة، وغير ذلك من الممارسات وكأننا أمام «إنكشارية» جديدة تستقوى بكتائب الموت، وبالاستفادة من الانتماءات الضيقة، القبيلة مقابل الوطن، لتطأ أحلام الشعب جهاراً نهاراً، وتقود السودان إلى كارثة أخرى. هذه «الإنكشارية» الجديدة لم تدرك بعد أن ثورتنا المجيدة لم تكن مجرد انتفاضة جياع، ولا ترتبط بأهداف سياسية بحتة وآنية، بقدر ما هي ثورة جيل بأكمله، اندلعت لتحطم الأفق المسدود الذي بناه نظام الإنقاذ، جيل لن توقفه أي «إنكشارية» جديدة أو قديمة، ولن يصمد أمامه أي أفق مسدود آخر، ولن يهدأ له بال حتى ينتصر أمله في المستقبل، فهو الجيل «الراكب رأس»!