والله، بِقَدر ما أدهشني، أحزنني جدا هذا المؤتمر الصحفي، لأني ما توقعت أبدا بعد كل هذه الثورة البيضاء السلمية التي خاضها شباب السودان ودفعوا مهرها غاليا.. أن تُدار الدولة بمبدأ “الشطارة”.
الفريق شمس الدين الكباشي وزميله الفريق ياسر العطا عَقَدا مؤتمرًا صحافيًّا مساء أمس وحبس السودانيون كلُّهم أنفاسهم في انتظار سماع بشارةِ خيرٍ تضع الوطن كله في المسار المُفضِي إلى طريق السلامة.. ولكن لدهشتي الكبيرة، وبمنتهي البساطة أنهى المجلس العسكري كل اتفاقاته السابقة مع قوى الحرية والتغيير بحجة أنه لم يوقِّع اتفاقا، وأنَّ ما دار بينهما كان مجرد “تفاهمات”!!
الدولة الحديثة -أيُّ دولة- ليست مجرد حدود جغرافية، بل حدود أخلاقية.. والقيم هي التي تحرسها وتصون ترابها ووحدتها.. على مبدأ (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا..)، فإذا كان المجلس العسكري يرى أن ثقة مفاوضي الحرية والتغيير التي جعلتهم يحسبون أن ما يدور في قاعة التفاوض ثم ينطق به المتحدث الرسمي للمجلس العسكري في مؤتمراته الصحفية الكثيرة، كل هذا مجرد (كلام والسلام) لا يرقى لمقام الإلزام، ولا يُعتَدُّ به طالما لم يبلغ مرحلة جلسة التوقيع الاحتفالية!.. فلا أتصوَّر أن شخصا أو جهة أو دولة أجنبية تستطيع بعد اليوم أن تضع يدها في يد المجلس العسكري.. حتى الدول القريبة منه والتي تُحسِن الظن به.. فصون العهود –ولو كانت شفاهية- هو أول بند في أخلاقيات إدارة الدول.
والأخطر من كل هذا؛ أن تبرير المجلس العسكري بأن “الظروف تغيَّرت” سيشير بإصبعٍ غليظ إلى حادثة فضِّ اعتصام القيادة، ويجعلها بندا في قائمة (الظروف) التي تغيَّرت بفعل فاعلٍ كان يتعمَّد تغيير الموازين على حساب أرواح شباب عزيز على هذا الوطن وأهله.
من الحكمة أن يتراجع المجلس العسكري عن مثل هذا المسلك، جراح الوطن لا تحتمل مزيدًا من النصال.. والمصلحة العليا تتطلب الإقرار بكل الاتفاقات السابقة بالتحديد مجلس الوزراء، والمجلس التشريعي، ويبقى فقط الحوار مفتوحا في تقاسم مقاعد المجلس السيادي.. والتي يمكن القبول فيها بالمقترح الأثيوبي دون حاجة لتهجينه بالأفريقي..
أفسِحوا المجال لبعض الفرح، فالشعب أضناه طول ليالي الظلام والظُّلم..