لاحظت، وأنا أعيد قراءة الحالة الليبية، أن هناك تشابها بين ما قام به العقيد القذافي في ليبيا قديما، وما يبدو أن الفريق أول أحمد دلقو حميدتي (ومن يدعمه سرا).
شرعت قبل سنوات طويلة في كتابة بحث (كتاب) عن ثورات الربيع العربي، غير أنى لم أفرغ منه حتى الآن؛ ليس بسبب بطئي المعتاد في الكتابة، وانشغالي ببحوث أخرى وحسب، ولكن لأن أحداث الثورات العربية ذاتها قد اتخذت، كما تعلم، مسارات متسارعة ومتشعبة تصعب ملاحقتها. ولكن، وفى محاولاتي المستمرة لتفهم أبعاد الثورة السودانية الراهنة، والتأمل في تطوراتها، عدت لمسودة بحثي القديم بعد طول غياب. توقفت عند الفصل الذي كتبت عن “الحالة الليبية” تحت حكم العقيد القذافي، وذلك لما رأيت فيها من ملامسة لواقعنا الراهن؛ مثل التفكيك المتعمد لمؤسسات الدولة (وللمؤسسة العسكرية بصفة خاصة)، ومثل عسكرة القبيلة و”دولنتها”، ومثل ما أبداه العقيد القذافي، خلال هذه العملية، من جرأة في إعادة هيكلة للمجتمع وللدولة في ليبيا، وكيف أن تلك العملية قد أبقته في الحكم لأكثر من أربعين عاما، رغم انها أدت، ضمن عوامل أخرى، لانهيار نظامه.
في فهم الظاهرة
لاحظت، وأنا أعيد قراءة الحالة الليبية، أن هناك تشابها بين ما قام به العقيد القذافي في ليبيا قديما، وما يبدو أن الفريق أول أحمد دلقو حميدتي (ومن يدعمه سرا) يحاول القيام به في السودان. لهذا أريد أن أشركك في ملاحظاتي هذه، لعلنا نتوصل معا لفهم “الظاهرة الحميتية” في السياسة السودانية؛ وهي في تقديري ظاهرة خطيرة لا يكفي أن نقابلها بمجرد السخرية والاستهزاء من ضعف المستوى التعليمي للفريق حميدتى، ومن الأمثال الشعبية التي يسوقها، ومن الطريقة التي ينطق بها الحروف. فهاك ما كتبت عن نموذج القذافي، وما يليه من تعليقي…
“… لقد كان مفهوم الدستور ومؤسسات “الدولة” يمثلان هاجسا مرعبا للعقيد القذافي، وقد سعى بكل ما في وسعه من تدابير للقضاء عليهما. لقد ابتدع ما أسماه بنظام “الثورة الشعبية” التي يكون على رأسها “قائد” واحد، ليس بينه وبين الشعب واسطة حزبية او ادارية، يلقى أوامره على الناس عبر وسائل الاعلام فينفذونها. واعتبر أن تلك هي الصيغة الحقيقية للديموقراطية (…) وقد تمكن بهذه الطريقة من حل مجلس قيادة ثورته والتخلص من العسكريين الذين صعد عبرهم للسلطة، ومن السياسيين المدنيين الذين يُتوقع أن يشكلوا تنظيمات سياسية، ومن البيروقراطيين الذين يمكن أن يؤثروا على القرارات، فتم له تفكيك الدولة وإحكام سيطرته الشخصية المباشرة على كل الشؤون العامة والخاصة في البلاد.
هياكل العقيد
غير أن تفكيك الهيكل التقليدي للدولة لا يعنى أن العقيد لم يبتدع هياكل بديله يمارس من خلالها السلطة. في محاولة لتوصيف هذه الهياكل ذهب بعض الباحثين (…) للقول بأن نظام القذافي كان يتكون من ثلاثة انظمة متداخلة: نظام ايديولوجي مستمد من الكتاب الأخضر ويهدف لدعم الشرعية؛ ونظام سياسي رسمي يتمثل في بعض المؤسسات السياسية والادارية والمحلية، وهو يعكس التجسيد الرسمي للإيديولوجية، ولكن لا وزن له من الناحية العملية؛ ونظام غير رسمي، ويتكون من ترتيبات عسكرية واقتصادية واجتماعية موازية للهياكل الرسمية، وتستند على نمط مخصوص من التحالف السياسي/العسكري/القبلي/الاقتصادي. وهذا الأخير هو النظام الفاعل الذي يستخدم النظامين الاخرين لأغراض متنوعة، ويتحكم من ثم بمفاعيل العمل السياسي بشكل يومي. غير ان هذا النظام نفسه تتحكم فيه دائرة داخلية عرفت “برجال الخيمة”، وتتكون من عائلة القذافي، وزعماء قبيلة القذاذفة.
واتساقا مع هذا النهج فمن البديهي أن تكون المؤسسة العسكرية الليبية هي أولى الضحايا؛ إذ ما أن استولى العقيد على السلطة حتى سرح أعدادا كبيرة من ضباط الجيش، وحول بعضهم لوظائف مدنية، كما حول بعضهم الى وظائف دبلوماسية خارج البلاد. ثم أمر بإغلاق الكلية العسكرية الملكية في بنغازي، وشرع في تجنيد اعداد من طلاب المدارس الثانوية وارسالهم الى الكليات العسكرية في مصر ليكونوا من بعد نواة لمؤسسته العسكرية الجديدة في ليبيا. وهذه بالطبع خطوات لم تكن مستغربة من حركة انقلابية تسعى لتأمين وضعها العسكري في الداخل، ولتقوية غطائها الاقليمي والإيديولوجي (العروبي-الناصري). ولكن المستغرب أن تكون “القاعدة الشعبية التحتية” التي يقوم عليها هذا الرأس “الثوري القومي” هي قاعدة قبلية ضيقة؛ إذ رأى العقيد القذافي ألا ينضم لمؤسسته العسكرية الجديدة الا من استوفى شرط القبيلة، “فأمر جميع أبناء قبيلته “القذاذفة” الذين يدرسون بالمرحلة الثانوية بالالتحاق بالكلية العسكرية، وتم ضم أولئك الذين لم يحصلوا على الشهادة الثانوية. وفعل عبد السلام جلود الشيء نفسه بالنسبة الى أبناء قبيلة “المقارحة”، وكان عبد الله السنوسي “المقرحي” من بين هؤلاء، وهو لم يحصل على شهادة معهد المعلمين الخاص. كان قرار معمر القذافي، أو عبد السلام جلود هو الشهادة (…). وكأن سياج القبيلة لم يكن كافيا، فقد أحاط العقيد القذافي نفسه بأبنائه الثلاثة: سيف الإسلام (الذي أوكلت له الشؤون السياسية والدبلوماسية)، والمعتصم (الذي أسند اليه مجلس الأمن الوطني)، وخميس (الذي أسندت اليه القوات الخاصة)، والتي سميت (جحافل خميس) ثم عدل اسمها ليكون اللواء 32 معزز.
بهده الطريقة استطاع العقيد القذافي أن يقوم بعمليتين في وقت واحد: تفكيك المؤسسة العسكرية القديمة وتسريح عناصرها، و”عسكرة” القبيلة؛ وهما العمليتان اللتان مهدتا، من حيث لا يشعر، لسقوط نظامه فيما بعد. الجدير بالذكر أنه لم يعرف لقبيلة القذاذفة قبل انقلاب القذافي نفوذ اجتماعي أو اقتصادي في المجتمع الليبي، وانما كانت، كما يقول بعض العارفين بالشأن القبلي في ليبيا، تابعة لقبيلة أولاد سليمان أو لقبيلة ورفلة. وقد هاجر الكثير من عائلاتها الى تشاد ابان الاحتلال الإيطالي لليبيا (…)، ثم عادت بعض هذه العائلات الى ليبيا بعد ظهور النفط، فانخرط أبناؤها إما في قوات الشرطة أو المهن اليدوية، وذلك نسبة لقلة المتعلمين منهم، ولنمط الحياة البدوية الفقيرة التي اعتادوا عليها في تشاد. ولكن ما أن استولى أحد أبنائهم على السلطة السياسية، وفتح لهم نوافذ على مؤسسات الدولة، الا وقد هرعوا اليها بدافع العصبية القبلية والمنفعة معا، مثلهم في ذلك مثل بعض العشائر في المجتمعات العربية الأخرى حينما قفز أبناؤها الى السلطة (سوريا والعراق مثلا)، وهو ما يشار اليه “بدولنة” القبيلة.
عصبية حاكمة
على أن صعود “القذاذفة” للسلطة، وتحولهم الى “عصبية حاكمة”، وتمتعهم من ثم بالكثير من الامتيازات العسكرية والاقتصادية، أغرى القبائل الأخرى للتواصل معهم أو للتلاحم بهم. لقد لاحظ ابن خلدون، محقا، أنه من الممكن أن يصطنع أهل العصبية الحاكمة قوما من غير نسبهم، فيندرج هؤلاء المصطنعون في تلك العصبية، ويلبسون جلدتها، وينتظمون في نسبها، وينالون، من ثم، ثمرات النسب، وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد(…)، فانهم إنما يشرفون بالرسوخ في ولاء الدولة وخدمتها (…). ويبدو جليا أن هذه الملاحظة تنطبق تماما على حالة القذادفة في ليبيا، إذ ما أن استولى على السلطة نفر من أبنائهم حتى أصبحت لهم جاذبية خاصة، والتحمت بهم عشائر أخرى في مرحلة النفط والدولة، ولم تعد “القذادفة” مجرد قبيلة بدوية ساذجة، وانما تحولت الى تحالف قبلي واسع، ثم تحول ذلك التحالف الى أشبه ما يكون “بمجموعة مصالح”، تضم في أعطافها سائر الأصناف التي تعرف “بالطبقة الوسطى” في المجتمعات العربية الأخرى. ثم انضمت اليها بالطبع النخب الهشة” من سياسيين ومثقفين وأصحاب فنون وأدب. أستطاع القذافي بهذه الطريقة أن يخترق المجتمع الليبي وأن يتحكم فيه لأكثر من أربعين عاما.
إنك ان تمعن النظر في هذه الصورة، ثم تحذف اسم العقيد القذافي وتضع مكانه “الفريق أول حميدتى، وتحذف اسم القذاذفة والمقارحة وتضع مكانهما أسماء المكونات القبلية لقوات “الدعم السريع”، فستجد أن نوعا من أنواع “العصبية الحاكمة” قد بدأ يتبلور الآن في السودان (بقيادة حميدتي وبدعم حلفائه في الداخل والخارج). وهو وضع يماثل الحالة التي كانت عليها ليبيا قبل نحو من خمسين عاما! كما يمكنك أبضا، حينما تمعن النظر، أن ترى مجموعات من القيادات القبلية وهي تبدى رغبة في الاستماع الى قائد العصبية الحاكمة (اللواء حميدتي) والتعاون معه، تماما كما توقع ابن خلدون من قبل. إن التطابق شبه الكامل بين مشروع القذافي ومشروع حميدتي يكمن في القدرة على صناعة “عصبية بدوية حاكمة” تحل محل المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة، وفى القضاء على النخب الفكرية والسياسية الفاعلة (يمينا ويسارا)، وفى اصطناع حاضنة اجتماعية من القوى القبلية التقليدية التي يمكن شراء ولائها عن طريق المال والجاه. صحيح ان اللواء حمبدتى لا يملك نفطا كما امتلك القذافي، ولكن اللواء حميدتى يمتلك قوة عسكرية ذات عدة وعتاد، ويمتلك جبلا من ذهب، كما يتمتع بدعم سخي من أكبر دولتين نفطيتين (السعودية والامارات). الفرق الوحيد هو أن العقيد القذافي كان يتطلع لأن يكون “ملك ملوك أفريقيا”، بينما لم يبلغ حميدتى تلك الدرجة من الجنون. يضاف الى ذلك أن العقيد القذافي كان قد تلبس بغطاء أيديولوجي نسجت خيوطه فيما عرف باسم “الكتاب الأخضر” (ويقال إن مفكرا سودانيا قد قام بتأليفه)، بينما لم ينتحل اللواء حميدتى حتى الآن شيئا من الأيديولوجيا، ولعله لم يفرغ بعد من “كتابه الأخضر”.
السودان ليس ليبيا
ومع هذا، فان هناك من سيحاجج بحماسة أن السودان ليس ليبيا، وأن حميدتي ليس القذافي، وأن المجتمع السياسي السوداني قد بلغ درجة من النضج لا مكان معها للتكوينات القبلية، وأن النخب السياسية لا يمكن شراء ولائها، وأن حميدتى ليس سلطانا ولا صانع سلاطين وإنما هو مجرد “صنيعة” مؤقتة، وأن الثورة الشعبية التي اقتلعت نظام البشير ستقتلع نظام حميدتى. إن “قلبي” يسير مع هذا الاتجاه الثوري المتفائل، ولكن آه…إن “عقلي” يتوجس خيفة من نموذج القذافي!
المصدر: الجزيرة