يكتب محمود ممداني، في كتابه “دارفور: منقذون وناجون”، أن الجدل بشأن التغيير الاقتصادي والاجتماعي في السودان، عبر فترة ما بعد الاستقلال، انحصر، إلى حدٍّ كبير، في الصراع بين التقليد والحداثة. يرى أن القوى التي تنظّمت حول الهوية المرتبطة بالقبيلة والدين هي التي تدافع عن “التقاليد”، وتتمثل هذه القوى في قيادات الإدارة الأهلية ذات الطابع العشائري، وفي الطرق الصوفية. وعلى الرغم من الطبيعة التقليدية لهاتين الحاضنتين، فإنها استقطبت، منذ بداية النضال ضد الاستعمار، أكثرية النخب المتعلمة. ومنحت، من ثم، حركة النضال الوطني ضد الاستعمار قياداتٍ حضريةٍ، تستند إلى قواعد جماهيرية، يتمركز ثقلها في الريف. وبالفعل، كانت هذه النخب المتعلمة بحاجة إلى السند الجماهيري والمال، في بدايات مرحلة النضال ضد الاستعمار. لذلك انقسمت إلى شقين: شقٌّ ارتبط بطائفة الأنصار التي يتحكم فيها بيت آل المهدي، في حين ارتبط الآخر بالطريقة الختمية التي يتحكم فيها بيت آل الميرغني. أما من بقي من النخب مصرّا على التحديث، فقد كانوا، كما يرى ممداني، أولئك الذين أتوا من حواضن حضرية، تتكون في الأساس من الإنتلجنسيا والجيش وطبقة التجار. وقف هؤلاء الحداثيون، منذ البداية، ضد القبلية والطائفية، وبذلك أصبح الصراع حول تشكيل مستقبل السودان، منحصرًا بين دعاة الحداثة وسدنة التقليد.
يرى ممداني أن قوى الحداثيين في السودان اشتملت على علمانيين وإسلاميين، وجدوا أنفسهم مجرد جيوبٍ صغيرةٍ في خضمٍّ من القوى التقليدية، لا يُرجى لها أن تصل إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع. لذلك، عنت الديمقراطية بالنسبة لهم حركةً ثوريةً، تغيِّر الأوضاع القائمة جذريا. إذ بخلاف ذلك، تبقى الديمقراطية، في نظرهم، مجرد وسيلةٍ لبقاء التقليديين ممسكين بالسلطة إلى أجل غير مسمّى، ومن ثم، استمرار الأوضاع على ما هي عليه. وحين فكر الحداثيون في تغيير الأوضاع القائمة، لم يجدوا وسيلةً سوى العنف. ومن هنا طفقوا يبحثون لأنفسهم عن حلفاء في الجيش. ويُلخِّص ممداني رؤيته في أن العداء بين قوى الحداثة والقوى التقليدية هو ما جعل السياسة السودانية تتأرجح، بعد الاستقلال، بين أنظمةٍ برلمانية وأخرى دكتاتورية عسكرية. وبالفعل، تجيء الديمقراطية في السودان بالقوى الطائفية إلى سدة الحكم، فيحرّك الحداثيون الجيش ليطيح الديمقراطية. ثم لا تلبث أن تقوم الثورات على الأنظمة العسكرية فتعود الديمقراطية التي تأتي بالقوى الطائفية التقليدية على مقاليد الأمور.
من المفارقات اللافتة في التاريخ السياسي السوداني لمرحلة ما بعد الاستقلال، أن العسكريين الذين يأتي بهم الحداثيون المؤدلجون إلى الحكم ينقلبون على هؤلاء الذين جاءوا بهم. ثم لا يلبث العسكريون أن يضطروا للعودة إلى الحواضن التقليدية، المتمثلة في الأحزاب والطرق الصوفية والعشائر، بحثا عن السند، فحين انقلب جعفر نميري على الشيوعيين واليساريين الذين أتوا به إلى الحكم في عام 1969، على أثر محاولتهم إزاحته من السلطة بانقلاب عسكري فاشل، أنشأ، عقب القضاء عليهم مباشرة، حزبه الذي سماه “الاتحاد الاشتراكي السوداني”. انتقل نميري، بسبب صراع حلفائه الشيوعيين معه، من يساريٍّ اشتراكيٍّ، أمم الملكيات الخاصة، إلى متصالح مع القوى الحزبية التي حاربته في البداية، ورد على حربها عليه بعنفٍ مضاعف. ثم ما لبث، حين نفدت منه كل بطاقات اللعب، أن أصبح مستنصرًا بالطرق الصوفية، بل ومطبقًا الشريعة الإسلامية، مُنصِّبًا نفسه إمامًا لمسلمي السودان، مدى الحياة. أما عمر البشير فقد أبعد حسن الترابي الذي أتى به، ثم ما لبث أن أبعد الحركة الإسلامية نفسها، بعد أن قسمها إلى شقين، وسيطر على شقها الأكبر، الأكثر تمكُّنًا من مفاصل الدولة، المسمّى حزب المؤتمر الوطني. وانتهى الأمر بالبشير، هو الآخر، إلى شراء الولاء من العشائر والطرق الصوفية، وحماية نظامه بالمليشيات القبلية التي تبيع بندقيتها لمن يدفع. وللمفارقة، كانت المليشيا التي أنشأها البشير لحماية نظامه من ثورة الشعب، ومن احتمال انقلاب الاسلاميين عليه، مستخدمين
الجيش، هي القوة التي رجحت الكفة لصالح الثوار، في اللحظة الحرجة التي سبقت إطاحة نظامه.
كدأبها مع كل الانقلابات العسكرية، رحّبت القوى الحديثة والجماهير المغلوبة على أمرها، وكامل الطيف الواسع الذي أنجز الثورة أخيرا، بتدخل قادة الجيش. ورحب الجميع، أيضًا، بقائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان (حميدتي)، غير أن قادة الجيش ذوي الارتباط بالحركة الإسلامية، وببقايا النظام القديم وجهاز أمنه، الذي بقي كما هو، وبمجمل القوى المبغضة للتحديث في المجتمع السوداني، بدأوا، منذ الوهلة الأولى، في المماطلة وشراء الزمن لإحداث انقساماتٍ تعوق وصول المدنيين إلى السلطة وإعادة المؤسسية إلى الدولة السودانية. وساعد العسكريين في ذلك أن قسمًا من القوى الحديثة ظل يرفع سقف المطالب بصورةٍ تتسم باللاواقعية، فقد وضح أن قسمًا من قوى الحرية والتغيير ظل ينادي بالتصعيد المتواصل لثورة الجماهير، حتى يحدث تسلّمٌ كاملٌ للسلطة. ولعل هؤلاء يرمون بذلك إلى الوصول إلى نقطةٍ تجعل فرض ما تسمى “الشرعية الثورية” أمرًا ممكنًا، فيصبح في الإمكان اجتثاث مجمل بنية النظام القديم، عبر التحكّم الكامل في مجريات الفترة الانتقالية. ولعل هذا المنحى اللاواقعي مأخوذ من التاريخ ومن بطون الكتب. فأصحابه، فيما يبدو، لا يقدّرون تعقيدات الواقع القائم الآن في السودان. ولا يبدو أنهم منتبهون، بما يكفي، لكثرة العوامل التي يمكن أن يستخدمها المتربصون بالثورة، في إحداث انقساماتٍ يمكن أن تُفقد الثوار كل شيء، إن هم أصرّوا على نيل كل شيء، في التو والحين.
مشكلة هذه الثورة، على خلاف الثورتين السابقتين في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، وفي إبريل/ نيسان 1985، أن الجيش الوطني في السودان لم يعد هناك، فقد انفتّ عضده وخلا، إلى حدٍّ كبيرٍ، من الضباط الوطنيين المهنيين، خصوصا على مستوى الرتب العليا، فسنوات حكم البشير الطويلة سيَّست الجيش تسييسًا فجًا، وجعلت من المهنة العسكرية منفذًا للثروة الشخصية والجاه. وساد نهج التصعيد إلى الرتب العليا وفقًا للولاء المطلق للرئيس، وليس للبلاد وأهلها وللصالح العام. بهذا، وصلت إلى أعلى الرتب قياداتٌ ضعيفةٌ، تشربت من عمر البشير أساليب الكذب والخداع والمناورات الفجة. وكما هو واضح الآن، أصبحت هذه القيادة الضعيفة ألعوبةً في يد قائد مليشيا قبلية ارتزاقية عابرة للأقطار؛ مبدؤها الوحيد ممارسة القتل والتدمير والترويع نيابة عمن يدفع، سواء كان هذا الذي يدفع داخل القطر أو خارجه.
تقول كل أقوال حميدتي وأفعاله، منذ مذبحة القيادة العامة في 3 يونيو/ حزيران الحالي، أنه في طريقه إلى تحويل نفسه من قائد مليشيا مرتزقة إلى رجل دولة. أدار ظهره للثورة وللثوار، ولم يعد يأبه بالمجلس العسكري نفسه. شرع في استخدام المال الذي أصبح يملك منه الكثير، لشراء قاعدة شعبية يخوض بها أول انتخابات مقبلة، يشرعن بها سيطرته على البلاد. ولكي يتمكّن من تعميق الانقسام، سيطر على الإذاعة والتلفزيون، وشرع، مع قيادة الجيش التي استتبعها، في شيطنة الثورة والثوار. جمع حميدتي بعضًا من شيوخ الطرق الصوفية ورجال الإدارات الأهلية العشائرية القديمة، باذلاً لهم المال والوعود. وشرع، مثل سابقه البشير، في الحشود الشعبية ليقول إنه مسنودٌ جماهيريًا، وإن الثورة لا تمثلها سوى شريحة محدودة من أهل المدن. وقد أعانت فصائل الإسلاميين المتوجسّة من الثورة حميدتي والمجلس العسكري في الإيغال في هذا المنحى، فهذه الفصائل التي تعاني أصلا من “رهاب اليسار والعلمانية” شرعت، منذ بداية الثورة، في نشر الخطاب الغوغائي الذي يدمج الشيوعية والعلمانية والإلحاد مع مجرد الدعوة إلى حكومة مؤسساتٍ يديرها مدنيون. بالخطاب الغوغائي، يجري تنفير البسطاء من الثورة التي جاءت من أجل حقهم في العمل، وحقهم في الأجور المجزية، وفي التعليم العام المجاني لأبنائهم وبناتهم، وفي الرعاية الصحية، وفي قطرٍ نامٍ، مستقل القرار، لا يعمل في خدمة أي محورٍ، إقليميّا كان أم دوليا.
يجسّد ما يجري حاليًا في السودان ما وصل إليه الصراع بين سلطة المعرفة ومعرفة الحقوق،
من جهة، وسلطة المال والسلاح والاستبداد، واللامؤسسية، من الجهة الأخرى. يدور هذا الصراع بصورٍ متفاوتة الحدة، في أقطار إقليمنا هذا المضطرب… وعلى الرغم من استعجال الحداثيين السودانيين النتائج، وعلى الرغم من أخطائهم المعادة، يمكن القول إن الثورة السودانية الجارية الآن إنما جاءت لتبقى، وتحقق أهدافها. ولربما لن تكون حدثًا حاسمًا، بقدر ما ستكون سيرورةً تبلغ أهدافها عبر موجات متعاقبة. وأرجو أن تحقق، عبر هذه الموجات المتعاقبة، الوعي اللازم للمصالحة المنتظرة بين الحداثة والتقليد، حتى نخرج من هذه الدائرة الشريرة.