الطيب صالح – رحمة الله تغشاه في الخالدين – له قصة قصيرة بعنوان: (حفنة تمر)..القصة على لسان صبي صغير يقدس جده ويرى فيه نفسه مستقبلا. ذلك المثل الأعلى انهار فجاة؛ عندما حضر مع جده يوم حصاد التمر، وشاهد بعينيه كيف يمارس جده الظلم بمساعدة نفر من شركائه.. تابع الصبي مسعود صاحب الأرض وهو يرجع إلى بيته حزينا خالي الوفاض وصوت الجد يرن في الفضاء: “ما زال لي عندك خمسين جنيها سنتحدث عنها لاحقا”.. الصبي كان يمضغ تمرات في فمه أعطاها له جده.. ركض وهو يغالب الغثيان مما شاهده.. ذهب بعيدا وأدخل يده في حلقه وتقيأ كل ما أكله من تمر.
رجالات الإدارة الأهلية الذين شاهدناهم على القنوات الرسمية وهم يتدافعون إلى تفويض المجلس العسكري لحكم البلاد، لم يتركوا لنا فرصة لنتساءل: “هو لسه في إدارات أهلية ؟” ألم ينتهِ هذا النظام وصارت الإدارة الأهلية عبارة عن رتب شرفية في التجمعات السكانية؟.. ألم تجتهد الإنقاذ في نزع كل السلطات التي كانت بيد الإدارات الأهلية ومنحتها لمنسوبيها من لجان شعبية وخلافه؟!. المشهد بأكمله كان غريبا.. عمد ومشايخ ومكوك يتم تجميعهم في صالات المعرض الدولي، كانهم مجندون صغار السن تم استدعاؤهم على عجل! لا والمصيبة أنهم كانوا (فرحانين أوي ).
ولا يفوتكم رجل الساعة (والد أحمد الذي اخترع الساعة وتابعنا قصته جميعا).. أتى مهرولا لكي يلحق بقطار الثورة حتى يأخذ قطعة من الكيكة، فوجد قطار الثورة قد امتلأ عن آخره.. الشهداء في الدرجات الأولى.. المصابون والجرحى، ضحايا إلاغتصاب والتحرش، المفصولون عن العمل، شباب المتاريس ولجان الأحياء، ناس المواكب والوقفات الاحتجاجية، الآباء والأمهات الذين يستودعون أنفسهم وأولادهم كل ليلة ويخرجون هاتفين (مدنية ). لم يجد (عمك) مؤطئ قدم في قطار الثورة فاختار القطار في الاتجاه المضاد.. وجد تذكرة (في أي بي).. فإذا به يتلو خطاب الإدارات الأهلية ويمنح تفويضه كاملا للمجلس ويدعو الناس كمان للمشاركة (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق).
منحتم التفويض للمجلس العسكري لكي يشكل الحكومة.. وتلقى بدوره البيعة فرحا.. و(دقت المزيكا) ورقصتم بسعادة فوق أشلاء القتلى ودماء الشهداء.. كم هو محزن أن يرقص من كان يجب أن يتلقى العزاء في الشباب الذين بذلوا حياتهم رخيصة دون الثورة.. كم هو مؤلم أن تهتز عصيكم طربا في الوقت الذي يجب أن تعلو هتافاتكم: “الدم قصادو الدم.. ما بنقبل الدية”..كم مؤسف أن تطيب أنفسكم للفرح في وقت فيه الوطن متشح بسواد الحداد.
تماما كالصبي في حفنة تمر.. رفض الشباب ما فعله كبارهم في تلك القاعة.. خرجت البيانات الواحد تلو الآخر تتبرأ مما فعلوه.. ربما اختلفت العبارات المكتوبة في البيانات لكنها اجتمعت في جملة واحدة (إن فلان الذي منح التفويض لا يمثل إلا نفسه)..وإن الشباب قد قالوا كلمتهم باكرا.. وخرجوا من كل فج عميق دون أخذ الإذن من أحد.. فقد عرفوا طريقهم وسيكملون المسير ولو كره المفوضون.. ويا رجالات الإدراة الأهلية الذين هرولوا إلى موائد السلطان في لهفة.. مع كل الاحترام والتقدير لمكانتكم التاريخية والتشريفية.. اسمحوا لنا أن نقول لكم (كانت بيعة خاسرة).