“إن الصحافة الحرة هي الحارس الذي لا ينام لكل الحقوق الأخرى التى يعشقها كل أنسان حر، إنها العدو الاكثر خطورة للطغيان. حيثما تكون هنالك حرية تكون الصحافة هي الحارس اليقظ لحقوق المواطن العادى”
من خطاب ونستون تشرشل للشعب البريطاني يوم النصر
قرار المجلس العسكري بقطع خدمة الإنترنت عن المشتركين هو قرار تشوبه عدد من العيوب، فهو مخالف للدستور، ومعرقل لتطور البلاد، ومخالف لما يتطلبه المستوى الدولي، وعديم الجدوى. وسنتعرض فيما يلي تفصيلاً لكل ذلك
الإنترنت والأمن القومي
القول بأن الإنترنت يتيح أفعالا تضر بالأمن القومي هو قول صحيح، ولكنه لايبرر منع الأنترنت. لماذا؟ لأن الأفعال التي تضر بالأمن القومي يتيحها عدد غير محدود من الوسائل. فكل أدوات الكتابة والتواصل الجسماني كالسيارات، أو الصوتي كالهواتف، يمكن إستخدامها في الأعمال المهددة للأمن القومي، ولا يمكن لحكومة تنظر لمصلحة شعبها أن تفكر في منعها. يبقى بعد ذلك السؤال كيف يضر الإنترنت بالأمن القومي؟ يجب أولاً أن نفرق بين الأمن القومي وأمن الحاكم. ففي حين ان حماية الأمن القومي تشكل سبباً لتقييد حقوق المواطنين حال يكون ذلك ضرورياً لحماية الأمن القومي، إلا أن أمن الحكومة لا يبرر ذلك. الإنترنت لا يمكن أن يستخدمه المشترك إلا في نقل المعلومات، ونقل المعلومات قد يكون مضراً بالأمن القومي، ولكن قطع الخدمة لا يمنع الجاني من نقل المعلومات، فهنالك وسائل تتيح نقل المعلومات بشكل أكثر سرية، وأقل تعرضاً للإكتشاف من الإنترنت.
وفقا لذلك فإن القرار هو قرار متعسف في أحسن الأحوال. التعسف هو أن يقوم القرار على هوى الحاكم وليس تحقيق مصلحة مشروعة للمجتمع. والقرار الذي يسعى لتحقيق مصلحة مشروعة يجب أن يكون الغرض منه مشروع، وكما ويجب أن تكون وسيلة تحقيقه مشروعة. والوسيلة المشروعة هي التي لا تصادر حق الأفراد بدون سبب معقول. بالنسبة لقطع خدمة الإنترنت لمنع إستخدامها بما يضر بالأمن القومي، فإنه رغم أن حماية الأمن القومي تشكل هدفاً مشروعاً يجب أن يسعى الحاكم لتحقيقه، إلا ان الوسيلة التي يستخدمها لتحقيقه يجب أن تكون مشروعة أيضاً. وهذا يتطلب عدم إنتهاك حقوق الأفراد، وعدم الإضرار بمصالح المجتمع وقطع خدمة الإنترنت يخرق الإثنين معا على النحو الذي نشرحه فيما يلي.
محاولة السيطرة على الحقيقة
“الحقيقة لا تتغير بسبب عدم قدرتنا على قبولها”.- فلانيري أوكونور
الحقيقة هي كل ما يدور خارج الذهن البشري من وقائع. وتشمل كلمة وقائع الأفعال المادية، والأفكار، والآراء التي تم التعبير عنها بالقول، أو الكتابة، أو التسجيل، أو التصوير، أو الرسم. والحق في الوصول إلى كل كل ذلك، ومعرفته، مالم يقع ضمن الأفعال والأفكار الخاصة المحمية بحقوق الخصوصية، يشكل جزء هاما من ركائز المجتمع الديمقراطي.
فالديمقراطية أساسها التبادل السلمي للسلطة، ولكن التبادل السلمي للسلطة لا يمكن تحقيقه إلا عندما تتيح القوانين والقواعد السائدة حق الناخب في الوصول إلى الحقيقة، وذلك لأن التبادل السلمي للسلطة لا يتم فقط بعدد الإصوات، بل بعدد الأصوات المدركة، والصوت المدرك هو الذي يتمتع صاحبه بالحق في معرفة الحقيقة.
قرار المجلس العسكري بقطع خدمة الإنترنت عن المشتركين يذكرنا بوزارة الحقيقة في رواية جورج أورويل الشهيرة 1984 وهي الوزارة التى كان يعمل فيها وينستون سميث الشخصية الرئيسية في القصة. كان مبنى تلك الوزارة يحمل شعارات الحزب الحاكم الثلاث (الحرية هي العبودية) و (الحرب هي السلام ) و (الجهل قوة ) لم تكن تلك الوزارة تحتكر فقط معرفة الحقيقة، بل تعيد صياغة ما وقع بالفعل من أحداث لتتلاءم مع ما تكون قررت أنه الحقيقة. فهي التي تقرر ما إذا كانت واقعة ما قد وقعت، او لم تقع، بغض النظر عن ماتم في الواقع، فإذا تنبأ الزعيم، ويسمى في القصة الأخ الأكبر، بوقوع شئ ووقع غيره، فإن الوزارة تغير كل المطبوعات، والتسجيلات المسموع منها والمرئي، الخاصة بتلك الفترة، بحيث يظهر فيها أن ما تنبأ بوقوعه الأخ الأكبر هو ما وقع بالفعل، ولا يعود هنالك أي أثر لما توقعه بالفعل الزعيم ولم يحدث.
هل يمكن منع الوصول إلى الحقيقة
“قل الحقيقة، وإلا فإن شخص آخر سوف يقلها بدلاً عنك”.- ستيفاني كلاين
الواضح هو ان قطع الخدمة قصد به منع المعارضين لخطط وأطروحات المجلس العسكري من ترتيب الإحتجاج على تلك الخطط والأطروحات. حسنا ولكن هذا مستحيل، لأن نقل ترتيبات المواكب، وتنظيم الإحتجاجات، لا يقتصر على إرساله عبر شبكة الإنترنت، بل يتم أيضا عبر الرسائل النصية الهاتفية، والإعلانات الموزعة، أو المنشورة في الأحياء، ومواقع العمل. وقد ثبت هذا بشكل واضح في مليونية 30 يونيو التي نجحت نجاحا باهرا رغم قطع خدمة النت. من جهة ثانية فإنه إذا كانت تلك الإحتجاجات سلمية فهي من حق من يدعو لها ولا يجوز عرقلة ما يقوم به، وإلا كان ذلك خرقاً لحقوقه الدستورية. أما إذا لم تكن سلمية فإن نشرها عن طريق الشبكة العنكبوتية يمنح رجال الأمن معلومات تساعدهم في منع الإضرار بالسلام العام، ويمنح الأجهزة العدلية معلومات تساعدهم في تقديم الجاني للعدالة.
مجتمع المعلومات ودوره في التنمية
معلوم ان المجتمعات يتم تصنيفها وفقا لوسيلة الإنتاج الأساسية التي تنتج بها ثروتها وذلك للتعرف على درجة تقدمها. عرف العالم في تاريخه المجتمع الرعوي والزراعي والصناعي، وتعرف على الثقافة العامة التي تسود في كل منهم. ورغم أن تلك المجتمعات تقوم الثقافات في كل منها على خصوصيات متفردة ، إلا أن سمات تلك الثقافة في نهاية الأمر تحدده نوعية الإنتاج السائد فيها. وأقل المجتمعات تقدماً هي المجتمعات الرعوية، وأكثرها تقدماً هي المجتمعات الصناعية بمختلف درجاتها وهي درجات يعكسها التطور التكنولوجي فيها، حتى ظهر مؤخراً ما يشار إليه بمجتمع المعلومات.
لا يوجد إتفاق عالمي على تعريف جامع مانع للمقصود بمصطلح “مجتمع المعلومات”. ولكن يتفق معظم المهتمين بتطور المجتمعات على حدوث تطور عميق بدأ في سبعينيات القرن العشرين ، من شأنه أن يغير الطريقة التي يتم الإنتاج بها في تلك المجتمعات، وهو تطور متعلق بشكل أساسي بتكنولوجيا المعلومات، لم يقتصر أثره على الإنتاج بل تعداه إلى الثقافة السائدة في المجتمع. من المؤكد أن طبيعة المعلومات المتاحة بواسطة تكنولوجيا المعلومات، وعلى رأسها الإنترنيت، قد غيرت الطريقة التي نعيش بها اليوم. السمة الرئيسية لمجتمع المعلومات هو تكثيف استخدامه لتكنولوجيا المعلومات من أجل التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي.
وفقا لذلك فلقد إنعقدت على مرحلتين القمة العالمية لمجتمع المعلومات (WSIS) برعاية الأمم المتحدة بشأن المعلومات والاتصالات، الذي انعقد في عام 2003 في جنيف، وفي تونس في عام 2005. كان أحد أهداف القمة الرئيسية سد الفجوة الرقمية العالمية التي تفصل بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة ،عن طريق نشر الوصول إلى الإنترنت في العالم النامي. حددت المؤتمرات يوم 17 مايو اليوم العالمي لمجتمع المعلومات، والذي جاء الإحتفال الرابع عشر به قبل إسبوعين من قرار قطع خدمة النت عن السودانيين.
أصدر المجتمعون في جنيف في الفترة من 10 إلى 12 ديسمبر 2003 إعلانا يؤكد إلتزام المجتمع الدولي ببناء مجتمع المعلومات الموجه نحو التنمية، حيث يمكن للجميع إنشاء المعلومات والمعارف، والوصول إليها، واستخدامها وتبادلها، كسبيل لتعزيز التنمية المستدامة وتحسين نوعية حياة الأفراد المبنية على مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والاحترام الكامل للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كما وأعاد الإعلان في فقرته الثالثة التأكيد على عالمية جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية ،وترابطها ، وعدم قابليتها للتجزئة بما في ذلك الحق في التنمية ، على النحو المنصوص عليه في إعلان فيينا. كما أكد من جديد أن الديمقراطية والتنمية المستدامة واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وكذلك الحكم الرشيد هي مبادئ مترابطة على جميع المستويات ويعزز بعضها بعضا. وأكد العزم على تعزيز سيادة القانون في الشؤون الدولية كما في الشؤون الوطنية
وهكذا نرى أن قطع خدمة الإنترنيت يؤثر سلباً على تطلعات الشعب في التنمية والتقدم.
تلقي المعلومات كحق من حقوق الإنسان
ثم ينتقل الإعلان بعد ذلك ليؤكد أن أساس مجتمع المعلومات هو حق كل شخص في حرية الرأي والتعبير وفقا لنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن هذا الحق يشمل حق السعي للحصول على المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها عبر أي وسائط، وبغض النظر عن الحدود. كما وأكد أن التواصل هو عملية اجتماعية وحاجة إنسانية أساسية، وهو أساس لجميع المنظمات الاجتماعية. يجب أن تتاح للجميع ، في كل مكان ، فرصة المشاركة في مجتمع المعلومات ولا ينبغي استبعاد أي شخص من الفوائد التي يقدمها مجتمع المعلومات.
في مايو 2011 ، قدم فرانك لا رو، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، تقريراً إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يستكشف الاتجاهات والتحديات الرئيسية لحق جميع الأفراد في البحث عن، وتلقي، ونقل المعلومات، والأفكار من جميع الأنواع قي وسائل الإعلام. قدم التقرير 88 توصية بشأن تعزيز وحماية الحق في حرية التعبير على الإنترنت، لتأمين الوصول إلى الإنترنت للجميع. أوضحت توصيات لا رو أنه على عكس أي وسيلة أخرى ، فإن الإنترنت يمكّن الأفراد من البحث عن المعلومات والأفكار بجميع أنواعها وتلقيها ونقلها، بشكل فوري وغير مكلف عبر الحدود الوطنية. من خلال التوسع الكبير في قدرة الأفراد على التمتع بحقهم في حرية الرأي والتعبير، وهو “عامل تمكين” لحقوق الإنسان الأخرى، يعزز الإنترنت التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويساهم في تقدم البشرية ككل. يعتبر المقرر الخاص أن منع المستخدمين من الوصول إلى الإنترنت ، بغض النظر عن المبررات المقدمة، غير متناسب وبالتالي انتهاك للفقرة 3 من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
دعا المقرر الخاص جميع الدول إلى ضمان الحفاظ على الوصول إلى الإنترنت في جميع الأوقات، بما في ذلك في أوقات الاضطرابات السياسية. وذكر أنه بالنظر إلى أن الإنترنت أصبح أداة لا غنى عنها لإعمال مجموعة من حقوق الإنسان، ومكافحة عدم المساواة ، وتسريع التنمية والتقدم البشري، ينبغي أن يكون ضمان وصول الجميع إلى الإنترنت أولوية بالنسبة لجميع الدول. أكد La Rue في تقريره على أنه “يجب أن يكون هناك قدر ضئيل من القيود على تدفق المعلومات عبر الإنترنت ، وذلك في حالات قليلة واستثنائية للغاية ، ينص عليها القانون الدولي لحقوق الإنسان”. أكد La Rue أيضًا على أنه “يجب أن تكون أي قيود منصوص عليها في القانون، وأن تكون ضرورية لغرض حماية حقوق الآخرين، وأن تكون أقل الوسائل المتاحة تقييدا للوصول إلى المعلومات “
الوضع الدستوري لوثيقة الحقوق
” حقوق الإنسان هي تلك الحقوق التي يتمتع بها الشعب في مواجهة أي حكومة في العالم ولا يجوز لحكومة عادلة أن ترفضها”. توماس جيفرسون
عندما أسقط المجلس العسكري دستور 2005 لم تسقط نتيجة لذلك أحكام وثيقة الحقوق التي ضمها الدستور بين دفتيه، بإعتبار أن حقوق الإنسان لا تستند في نفاذها على نص، فهي نافذة بذاتها دون حاجة لنص، وإن كان يحسن النص عليها. بل وأن بعض كبار الفقهاء الدستوريين رأى أن النص على وثيقة الحقوق قد يهدر تلك الحقوق بدلا عن صيانتها
كان ذلك هو رأى اليكساندر هاميلتون فى المؤتمر الذى أصدر الدستور الأمريكي. يذكر هاميلتون “إن وثيقة الحقوق ليست فقط غير ضرورية، بل هى فى الواقع تشكل خطراً على الحريات، فهى بما تحتويه من إستثناءات لسلطات لم يتم منحها فى المقام الأول، تقدم حجة زاهية للحصول على سلطات أكثر. لماذا نقرر عدم جواز القيام بفعل ليست هنالك سلطة بالقيام به ؟ لماذا نقرر مثلا أن حرية الصحافة لا يجوز تحديدها، عندما لا يوجد أصلاً سلطة لتحديد تلك الحرية ؟ إنني لا أزعم أن نص مثل هذا يمنح سلطة تنظيم الصحافة، ولكن أزعم أنه يمنح من يرغب فى سلب تلك السلطة، أن يدعى أن النص على منع إنتهاك حرية الصحافة، يعنى سلطة تنظيمها بشكل صحيح ” نجح هاميلتون أول الأمر، فخرج الدستور الأمريكى بدون وثيقة حقوق، وقد إنعكس تخوفه فيما بعد، عند إصدار الوثيقة فى آخر الأمر، فى التعديل التاسع والذى ينص على أن ” تبنى الدستور لبعض الحقوق لا يجب أن يفسر بأنه يتضمن إنكاراً أو إستهانة بالحقوق الأخرى التى يحتفظ بها الشعب”
حقوق الإنسان هي موانع لإستخدام السلطة كامنة في أساس السلطة القانوني. السلطة هى قدرة قانونية على إجبار الآخرين، على فعل شئ أو الإمتناع عن فعله، وأساسها القانونى هو القبول الطوعى لمن تُمارس عليه، والقبول الطوعى أساسه التنازل عن القدر اللازم من الحرية الذى يتطلبه العيش فى الجماعة. وثيقة الحقوق هى قائمة تحتوى على ما لم يتم التنازل عنه من حريات.
بغض النظر عن سريان وثيقة الحقوق فإن إلتزامات السودان تلزمه بما يطلق عليه بقانون حقوق الإنسان الدولي المضمن في الوثائق العالمية والتي تضم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية.
المجلس العسكري نفسه لايماري في ذلك ولا يجادل فيه فقد إلتزم هو نفسه بإحترام حقوق الإنسان وتعزيزها.
وفقا لذلك فإن قطع خدمة الإنترنت عن المشتركين ومنعهم بالتالي من حقهم في تلقي المعلومات هو إخلال بحقوقهم الدستورية.
nabiladib@hotmail.com