أسوأ ما تركه لنا نظام الإنقاذ من “مُخرجات” هو أنه أحال السودان إلى جيفة نتنة لا تجتذب سوى “الرخم” والكواسر و”صقور قريش”، ومجموعة عجيبة من المحتالين الدوليين من مشارق الأرض ومغاربها، ومن الشركات الوهمية مثل “سايبيرين” التي وعدت باستخراج كميات من الذهب تساوي انتاج العالم، فتح لهم باب استباحة السودان قيادات النظام وسماسرته و”ركيبوه” الذين لا يردعهم قانون أو رقابة أو عيب. والقائمة طويلة من مصّاصي دماء الشعوب بمساعدة حكوماتها، ملتحين وحليقي الوجوه؛ عرب وعجم، وجدوا البلاد “أمها ميتة” دون أولياء أو بواكي، فاستباحوها بعد أن شد أهلها وثاقها، وكشفوا عورتها، وشاركوا في إذلالها واغتصابها.
غير أن عقد المجلس العسكري مع شركة العلاقات العامة الكندية الذي وقعه “الفريق أول” حميدتي أمر آخر عجيب لا يبعث فقط على الدهشة أو الغضب (فقد عوّدنا النظام السابق وخليفته الحالي على ذلك)، بل يُثير ذُعرا حقيقيا لأن من وقّعوا على مثل هذا العقد الأخرق يريدون الآن حكم السودان بنفس المزيج من الكذب المفضوح والجهل الفاضح الذي حكم به عمر البشير وحركته الإسلامية وجنرالاته البلاد ثلاث عقود: الكذب المفضوح لأن المجلس العسكري ونائبه حميدتي أكدوا مرارا وتكرارا لقوى الحرية والتغيير، وللاتحاد الأفريقي، وللعالم الأجمع، أنهم لا يسعون لحكم السودان بينما هم يوقعون مثل هذا العقد (الذي حسبوه سريّأ) مع شركة علاقات عامة تُقدم خدمات طويلة الأمد لمجلس لا يبدو أنه سيسلم الحكم لحكومة مدنية الآن أو بعد “فترة انتقالية”.
أما الجهل الفاضح فهو في محتوى العقد ونوع الخدمات التي تحتاج لعصا سحرية لتحقيقيها، أيسرها “تحسين” صورة المجلس العسكري المُلطخة بدماء العزل المسالمين أمام العالم الذي شاهد – من أقصاه إلى أقصاه -فظائع المجلس ومذابحه وبطشه بالمتظاهرين والمعتصمين، وبمن لجأ إلى بيته، أو إلى المساجد، أو إلى المشافي، وحسب أنه آمن. والحق يُقال ان بعض الشكوك ساورتني في صحة العقد (رغم أن التحصل عليه تم من جهة حكومية كندية) لشطط ما احتواه من وعود ومهام يحتاج تحقيقها لمعجزات مثل فلق موسى للبحر وإحياء عيسى للموتى. غير أنني استمعت لمقابلة إذاعية (لعلها في راديو اليي.بي سي) مع ممثل الشركة الكندية، يُجيب فيها على أسئلة مذيع (لم يستطع إخفاء سخريته) بثقة مُذهلة وشجاعة أدبية منقطعة النظير، مؤكدا أنهم سيساعدون المجلس في تكوين حكومة مدنية، وتزويد رئيس الوزراء بخبير اقتصادي لإصلاح الاقتصاد المنهار، والحصول على مساعدات مالية من أمريكا وروسيا (قد دنا عذابها) والسعودية، ومساعدته في تحسين صورته في بلدان عديدة لأنه يُريد أن “يدور” في فلك غربي (مع الولايات المتحدة وأوروبا)، وتحسين علاقته مع روسيا، وتزيين صورته في وسائل الإعلام الدولية و(المحليةّ)، والحصول على التمويل والمعدات للقوات المسلحة (عبر مجلس الأمن!) – والكرزة على قمة الكيكة، تدبير مقابلة لحميدتي مع الرئيس ترمب!
وبنفس الشجاعة الأدبية، ذكر ممثل الشركة أنه عرض نفس العقد لعمر البشير في فبراير وعرض عليه إقامة مُعززة مكرمة في السودان، وإبطال تهم محكمة الجنائية الدولية إن هو تنازل لحكومة انتقالية (وذلك بمباركة الولايات المتحدة، كما أكّد في المقابلة)!
أنا لا ألوم الشركة الكندية فقد أطلقت وعودا يستحيل تحقيقها، وباعت للمجلس ولحميدتي “الترماج”، وتسلمت 6 مليون دولار كما جاء في الأخبار. ولا أظن أنه يمكن مقاضاتها لأن القانون لا يحمي المغفلين والجهلة. السؤال هو من العبقري الذي أقنع المجلس وحميدتي بهذه الصفقة الخاسرة، وكم كان نصيبه من الملايين الستة؟
aelhassan@gmail.com