-1-
يقول الشاعر المصري صلاح عبدالصبور :
هذا زمَنُ الحقِّ الضائعْ
لا يعرفُ مقتولٌ مَنْ قاتِلُهُ ومتَى قَتَلَهْ!
فرؤوسُ الناسِ على جُثَثِ الحيواناتْ !
ورؤوس الحيوانات على جثث النّاس
فتحسّسْ رأسَكْ !
تحسّسْ رأسَكْ!!
بقيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وانتهاء الحرب العالمية الثانية (1945-1949) بهزيمة النازية والفاشية، يجزم أي قارئ لحركة التاريخ أن أنظمة الحكم قد حصرت في نمطين إثنين: الدولة المدنية الديموقراطية – دولة المساواة في الحقوق والواجبات ، والقائمة على هيمنة سلطة القانون. يقابلها في النقيض نمط الدولة الأوتوقراطية – دولة الإستبداد، سواء كان المستبد فرداً أو حزباً. وبنظرة لأحداث العالم في القرون الثلاثة الأخيرة ، نرى أنّ ثورات الشعوب غطت مساحة شاسعة من خارطة العالم. قد تنجح هذه الثورات في إقامة الدولة المدنية الديموقراطية، وقد تتعثر قبل أن تكتمل دورة النضج فيها، فيتم سرقتها ، مما قد ينتج عنه استبداد جديد. ونحن في السودان لم نكن استثناءاً. جرّبنا خلال فترة الأستقلال الوطني – ديسمبر 1955- أبريل 2019 – أي خلال 64 عاماً ، جربنا العيش بما حصيلته 52 عاماً من الحكم الإستبدادي ، إنفرد حزب الأخوان المسلمين بثلاثين سنة منها. إن من ميزات استئثار الحاكم المستبد أو الحزب الواحد إذ يمسك بالسلطة أنّ تتجذر دولته في كلِّ المؤسسات وأروقة الدولة. أطلق عليه الإسلامويون مفردة “التمكين”!
-2-
تتشابه انظمة الإستبداد في عصرنا. أحسن ما تصفهم العبارة الإقصائية: ( الذي لا يغني معنا فهو يغني ضدنا). الإسلامويون كانوا وسيظلون بمعزل عن شعبنا. لا يعرفون غير التنظيم ومصلحة التنظيمّ، ولو أدّى ذلك إلى إبأدة نصف الشعب ليحكموا النصف الآخر! فهم أول حزب سياسي ينكّل بالخصوم كأبشع ما يكون التنكيل. بيوت أشباح لم يعرفها الشعب السوداني على مدى تاريخه. قتل الخصوم بقسوة تفوق أسلوب الوحوش. لم ينس شعبنا رتل الشهداء منذ مذبحة رمضان الأولى 1989م حتى مذبحة رمضان الثانية 2019 وما بين المذبحتين من حروب إبادة وسفك دماء . حزب تقول أفكاره أنّ الآخر المختلف غير جدير بالحياة. وسلسلة شهدائنا طويلة : هل نبدأ بالطبيب المناضل علي فضل وجرجس ومجدي والتاية وصلاح السنهوري والأستاذ احمد الخير و….و….لكن القائمة تطول على مقال للتذكير العابر بجرائم حزب يشارك النازية والفاشية كل ما يمتهن كرامة الإنسان!
يقصف الطيران الحكومي قرى الأهلين في دارفور دون تمييز . تفلح دولتهم في توظيف الأس العرقي بادعاء أن الحرب في دارفور بين الحمرة والزرقة (العرب والزنوج) فتظهر لأول مرة كتائب الجنجويد ذات الأصول العربية ، والتي تقوم بالإبادة الجماعية والسلب والنهب والإغتصاب برعاية ومباركة نظام الإسلامويين في الخرطوم. تمتد حرب الإبادة والقصف الجوي بالبراميل المتشظية على مواطني جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق الآمنين. كل هذا يحدث ولا يتحرك ضمير أخ مسلم واحد ليقول لحزبه وفي العلن إن الذي يحدث هو الخطأ بذاته وأنه سيضع هذه البلاد في حافة الهاوية.
وإذ يهيء الله لهذا الشعب وسائل الإنتصار في ثورة ملأت عين الحسود في الداخل والخارج، دافعا الضريبة من فلذات أكباده من جيل لا يعرف الخوف. وإذ يتهيأ شعبنا لبناء دولته المدنية التي اقتلعها عنوة واقتداراً، حينها يقبل التنظيم الفاشي المهزوم بوجهين: وجه يكثر الصراخ والدموع بحجة أن الثوار أقصوه ! كذا ؟؟؟؟ وماذا عن إقصاء امة بحالها وإذاقة شعب بأكمله الذل ومرارة العلقم والجوع والمهانة لثلاثين سنة؟ هل كان ذلك شيئا غير الإقصاء في أبشع صوره؟ وتريدون المشاركة حتى في الحكومة الإنتقالية ؟ الإسلامويون لا يستحون ولا يعرفون العيب!
أما الوجه الآخر فهو الوجه السري لما تبقى من التنظيم الهالك. يسعى في الخفاء. ولا يتورع أن يلبس لكل حالة لبوسها. سلاحه الشائعة ونشر الأكاذيب وكل ما يمكن أن ينزل الفتنة ويشق صف كتائب الثورة . وحين تلوح الفرصة لينتقم فإن دولته العميقة تخوض آخر معاركها الخاسرة ممثلة في تصفية الشباب في مجزرة 29 رمضان التي صارت حداً فاصلاً بين شعبنا وبينهم.
-3-
واليوم – إذ تلوح من وراء الأفق الحزين شمس الأمل بقيام دولة المواطنة – يطلق الإسلامويون آخر ما في جراب حاويهم من أفانين السحر: أشرطة فيديو متقنة التصوير لمجزرة 29 رمضان، لا حباً في الشهداء. كل القصد أن يقولوا للشعب السوداني: الدعم السريع (الجنجويد) هم من قاموا بمجزرة رمضان!! ولأننا في نظر الأخوان المسلمين أطفال رضع ، فسوف نصدقهم ، شريطة أن يجبيوا على أسئلة لا تحتاج إعمال فكر:
أولاً: من الذي صنع مليشيا الجنجويد ومليشات الدفاع الشعبي وكتائب الظل والشرطة الشعبية وجهاز الأمن الذي يتفنن في صناعة الرعب ؟ من الذي دفع بهم لأرض الإعتصام وقال لهم: إقتلوا واغتصبوا؟
ثانياً: لماذا هذه الحملة الإليكترونية الخبيثة بكل ما تعنيه الكلمة وفي هذا التوقيت بالذات؟ إن ذاكرتنا أيها الإسلامويون القتلة ليست بهذا الضعف لننسى من أنتم ، وكيف جعلتم سيرة الموت حكاية على قارعة الطريق ، حتى أقسمت امهات شهدائنا ألا يتقبلن العزاء ما لم تقم دولة القانون التي دفع فلذات أكبادهن الروح لكي تكون!
أيها الإسلامويون: إنزعوا من وجوهكم الشوهاء قناع التخفي. لا تحسبوا أن بإمكان حيلكم المكشوفة أن تخدع شعبا صنع ثورة غطت جبين الشمس. بل يعرف الشباب والكبار.. ويعرف كل صبي وصبية من أبناء وبنات شعبنا من الذين تلطخت أياديهم بدماء شهدائنا الأبرار يوم 29 رمضان. نحن نعرف من الذي حشد آلاف حملة البنادق سريعة الطلقات. من الذي صب وابل الرصاص على أبنائنا وبناتنا ، وسد المنافذ وأحرق الخيم وفي اليوم التالي مسح الرسوم الحضارية على حائط شارع منحه أبناؤنا الثوار الحياة وجئتم أنتم لتعرضوا عليه مسرحية الموت.
شعبنا أيها الإسلامويون يعرف من القاتل الحقيقي ، فانزعوا الأقنعة من وجوهكم التي لا تعرفوا معنى الحياة و الفرح!
لندن في 11 يوليو 2019م
fjamma16@yahoo.com