لبى المواطن الصالح أمين محمد زكي نداء ربه في أيام مباركة من شهر فضيل، وهرع جمع غفير من أفاضل أهل هذا البلد، رجالا ونساء، إلى تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير.
إذا بدت لك مراسم التشييع مثل تظاهرة شعبية عفوية تقدر الفقيد الراحل أحد أبرز ممارسي وقادة الرياضة في السودان، فظنك صحيح من جهة أن الذاكرة السودانية تفيد أن أمين محمد زكي أسطورة الملاعب الخضراء وأحد عمالقة الكرة السودانية، بل هو كابتن الفريق القومي السوداني، عندما فاز بكأس الأمم الأفريقية في العام 1970م. وقد كانت المرة الأولى والأخيرة حتى الآن، وقاد أيضا فريق الهلال في فترات ذهبية من تاريخ السودان الرياضي.
وعند رثاء كابتن أمين زكي يقتضي المقام أن نلقي نظرات سريعة من سيرة جهيرة وممتدة لا تعبر عن شعور من أعدها، بل تعبر عن شعور جمهور عريض من الناس، أحب أمين زكي واحترم سيرته المتجددة والمهمة التي أدءاها في ميادين الرياضة والفن والمجتمع. والكابتن أمين زكي في أدائه لهذه المسؤولية ينقل بضاعته من رصيف القلوب إلى سفن العقول.
الشخصية الثلاثية
لن نكون مبالغين إذا قلنا أن لكابتن أمين زكي شخصية فذة استثنائية ذات قصة ممتدة في حياتنا وثلاثية الأبعاد. ورغم الألقاب والوظائف المتعددة له، فإن أمين زكي يحبذ أن يلقب بكابتن، لأنها الوظيفة المحببة لديه.
أما أبعاد الشخصية الثلاثية، فقد كان أمين رياضيا متميزا ثم معلما قديرا لمادتي اللغة الإنجليزية والرياضيات، ثم أصبح ضابطا عظيما في القوات المسلحة، أحيل إلى التقاعد في رتبة العميد في غمار الأيام الأولى لما سيعرف في تاريخ السودان المعاصر بـ (ثورة الإنقاذ الوطني).
وبين هذه الثلاثية انضم لفريق الهلال الذي يعد أكبر حزب غير سياسي في السودان حتى الآن. وإضافة إلى هذه الثلاثية فإن كابتن أمين فوق كل هذه الإنجازات التي حققها هو المدرب السوداني الوحيد الذي يحمل شهادة خبير من الاتحاد الأفريقي لكرة القدم.
جزيرة توتي
ولد ونشأ كابتن أمين في جزيرة توتي، والمتفق عليه في التراث السوداني أن الجزر تنتج أخصب المحاصيل وتورث في سكانها الانتماء والالتصاق بالأرض.
لكن الكابتن أمين يعتبر نفسه منتوج حي لجزيرة توتي، فقد ولد فيها من والدين ولدا في توتي تلك الجزيرة التي يحفها النيل من جميع أوجهها، فعلمته توتي الطمأنينة التي كانت جزءا أساسيا في حياة سكانها.
التحق كابتن أمين في طفولته بخلوة الفكي المشرف، وحفظ فيها سورا من القرآن الكريم وتعلم الصلاة والكتابة والقراءة. وقبل أن يكمل السنة السابعة من عمره انتقل إلى المدرسة الأولية صدفة ضمن دفعة من نحو ثلاثين طالبا التحقوا بمدرسة توتي الأولية دون السابعة. وبعد أن مكث في المدرسة الأولية أربع سنوات كان حظه أن يلتحق بمدرسة أم درمان الأهلية الوسطى، بمصاريف سنوية قدرها 12 جنيها، لكن تدخل الأستاذ الجليل الراحل محمد أحمد عبد القادر خفضها إلى 6 جنيهات في السنة.
أم درمان الأهلية
نجح كابتن أمين في امتحان الدخول لمرحلة الثانوي بمجموع 285 درجة يؤهله لدخول مدرسة وادي سيدنا، لكن لخطأ في استمارة القبول تم قبوله في مدرسة أم درمان الأهلية.
في مدرسة أم درمان الأهلية برز نشاط كابتن أمين الرياضي في كرة القدم وفي السلة، لكن تفوقه الأكبر كان في كرة القدم حبه الأول، وتراه دائما يقول (إن لم تحب كرة القدم فلن تلعبها ففيها جهد خرافي وفيها تعب شديد وإرهاق لكن فيها متعة لا تدانيها متعة).
كان كابتن أمين محبا لكرة القدم منذ (الدافوري)، وكان يلعب مع الجيل السابق له بقدرات عاليه، أقنعت الجيل السابق بقبوله مع صغر سنه.
كان يحب كرة القدم حبا غريبا، وعند عودته من المدرسة في الساعة الحادية عشر صباحا، يظل يلعب حتى الثانية ظهرا، ثم يبدأ من الثالثة بعد الظهر حتى السادسة مساء. كان يلعب بكرة الشراب في ميدان ملئ بالحفر والرمال، مما يدل على حبه لكرة القدم التي إذا أحببتها ضحيت لها بكل شيء، على حد تعبيره.
نادي الهلال
قاد عشق كرة القدم والتفاني فيها كابتن أمين إلى نادي الهلال، وأصل الحكاية أن الأستاذ حسين الغول أستاذ الرياضة في مدرسة أمدرمان الأهلية الثانوية، لمح تفوقا مبكرا لدى كابتن أمين في كرة القدم، فاستشار أحد أعضاء نادي الهلال المؤثرين، عن إجراءات إلحاق الاعبين بالنادي، لأن لديه طالبا مبرزا يود إلحاقه بالهلال. كان الإجراء يقتضي كتابة خطاب للانضمام، وبالفعل كتب الغول الخطاب باسم كابتن أمين، ووقع عليه المرحوم محمد حسن كرار سكرتير النادي أنذاك بالموافقة.
وكان الكابتن أمين بعيدا عن هذه الحكاية، إلى أن وصله خطاب على عنوان المدرسة يفيد مضمونه (بما أنك وقعت لنادي الهلال فعليك التوقف لمدة عام من تاريخ هذا الخطاب عن مزاولة أي نشاط رياضي رسمي لنهاية المدة). وقبل أن يكمل الكابتن أمين دهشته من الخطاب شرح له الأستاذ حسن الغول حكاية تسجيله للهلال.
صديق منزول
بعد انتهاء فترة الإيقاف بعدة أيام بينما كان الكابتن أمين يتنزه على شاطئ النيل بالقرب من حديقة الحيوانات (فندق برج الفاتح حاليا)، وكانت حركة السير في السودان آنذاك يسارا، توقفت عربة جميلة ونظيفة تحمل الرقم
85/88 وينادي سائقها أمين تعال. وتحولت دهشة أمين إلى ارتباك عندما عرف أن سائق العربة كان أمير الكرة السودانية صديق منزول. وتملكته حالة من النشوة مبعثها أن منزول يعرفه ويذكره بالاسم، ويطلب منه أن يأتي إلى نادي الهلال لتسجيله في كشوفاته.
وفي داخل نادي الهلال أخرج الراحل إبراهيم يحيى الكابتن أمين من حالة الارتباك، بسؤاله عن سبب الزيارة؟ فيجيب جئت لأوقع للهلال.
ويعيد السؤال من تريد بالتحديد؟
ويرد الكابتن أمين صديق منزول.
حاجة باردة
داخل مكتب الإدارة استقبل صديق منزول الكابتن أمين هاشا وكان كبار الأهلة يجلسون على الكراسي في المكتب. وتمت الإجراءات في بساطة طلب صديق منزول أورنيك تسجيل ووقع عليه الكابتن أمين بيده اليسرى ثلاث مرات.
أثناء مراسم التوقيع دخل المكتب الراحل حيدر عمر سليمان وكان زميلا لأمين في المدرسة الأهلية، فقال له صديق منزول (يا حيدر سوق الراجل أسقيه حاجة باردة). وحين سألته: هل سجل أمين زكي في نادي الهلال مقابل (حاجة باردة)؟ ضحك أمين بجزالة وتذكر أن صديق منزول همس له بعد التوقيع (مطلوب منك الآن أن تعطي الهلال لا أن تأخذ منه). وبعد التسجيل بدأت قصة حب جديدة عميقة لكابتن أمين زكي مع الهلال، بلغ عمقها عنده أنه سألني ذات مرة عن الفريق الذي اشجعه؟ فأجبته ببرود أنني لا أشجع أي فريق. ضحك بجزالة وقال لي أنت تشجع الهلال؟ فقلت له هل تريدني أن أشجع الهلال مجاملة؟ رد بحسم لا أنت فاهم ومثقف وأي سوداني فاهم ومثقف يشجع الهلال.
عشق جارف
في داخل أمين زكي عشق جارف للموسيقى والغناء، لإيمانه المطلق بأن الموسيقى والغناء جزء من الثقافة، وذلك نظراً لنشأته في بيئة شكل الأدب والفن هويتها الأساسية.
كان أمين زكي يأخذ على صديقه الأثير الفنان القدير عبد الكريم الكابلي رد الله غربته، حيث كان عالم الغناء والموسيقى ركنا أساسيا من الثقافة العامة، يأخذ على كابلي هروبه غير المبرر من الحبيب حين يقول (كنا نبعد من زمان). كنت أرد عليه (يا جنابو كابلي لم يهرب بل انسحب تكتيكيا تفاديا من الموقف المحرج حين يقول (قبل ما تتلف قلوبنا وتاني يغلبنا الدواء).
وكان أمين زكي حين يطلق ضحكته المرحة يعقبها بتعليق ساخر، وقال لي (والله يا أبو الشيخ شكلك مكسر كسير).
لحظة توقف
رحيل أمين زكي هو لحظة توقف أمام نهاية حقبة سودانية في الرياضة والثقافة والغناء والموسيقى، لم يتبق منها إلا أسماء قليلة يمثلون هذا العصر المضيء، ذلك أننا أمام نهاية عصر ومرحلة في كل شيء.
ولا نجد اليوم أمامنا إلا بقايا وفتات من المواهب الكبيرة واللافتة.
امين زكي قصة عشق من أجل أشياء لا تشترى ورحلة كفاح من أجل أن يسود الوعي المبكر والعاطفة النبيلة قد نعود لفصولها يوما ما، إذا سهلت مشاغل الدنيا لي وللصديق القديم الدكتور عمر أحمد محمد عثمان الشهير في عالم الرياضة بعمر النقي أن نلتقي مع بعض حتى لو أسبوع أقلو … أسبوع أقلو.