اعتصر الألم قلبي وأنا أطالع النبأ الحزين.. غادرت ربيع الدنيا الفانية!!.. من هي ربيع الدنيا؟.. هي تلك التي وهبتنا أجمل كلمات الغناء السوداني، لكم نحن مدينون لتلك المرأة التي لا نعرفها والتي جملت حياتنا بالغناء البديع، إنها خديجة أحمد كافي زوجة اللواء الشاعر عوض أحمد خليفة، التي ووريت الثرى نهاية الأربعاء الماضي. عوض أحمد خليفة من أجمل من كتبوا (شعر الغنا)، وظل منذ نهاية الخمسينيات يثري الساحة بأجمل الأغنيات إلا أن (ربيع الدنيا) كانت جوهرة مضيئة ووسيمة في تجربته الشعرية.. خديجة هي من غنى لها (ربيع الدنيا)، رحمة الله عليها. لكم أنا حزين على رحيلها، هناك كثيرون جملوا حياتنا وكانوا سبباً في إسعادنا ومضوا دون أن يسمعوا منا كلمة شكر.
كان اللواء عوض أحمد خليفة أهدى صديقه عبد الكريم الكابلي أولى أغانيه (أغلى من نور عيني-57) ونور هي شقيقته، وبعدها كتب لحبيبته التي لم يتزوجها (عشرة الأيام) وأهداها لعثمان حسين، بعدها ومنذ العام 61 حتى بداية سبعينيات القرن الماضي كانت ملهمته الوحيدة هي خديجة كافي (زوجته)، كتب فيها أجمل إبداعاته (ربيع الدنيا عثمان حسين – غاية الآمال وعزيز دنياي اللتان أبدع فيهما إبراهيم عوض – بالي مشغول تغنى بها زيدان – ما خلاص نسيتنا غناء الكابلي – أيام شبابي معاك – كيف يهون- في بعدك يا غالي _ لو كنت ناكر للهوى التي تغنى بها أبو عركي- تحرمني غناها شرحبيل- خاطرك الغالي- خلي قلبك معاي شوية – وصديقيني.). هذا الغناء الجميل الذي تمتعنا به سنيناً ولا نزال ألا يستحق أن نُهدي ملهمته كلمة وداع لو لم نكن ناكرين للجميل؟. لو كنت بالخرطوم لما توانيت أن أصل حافياً لمقابر حمد النيل لوداعها بدمعاتي الغوالي.
للواء عوض أحمد خليفة حياة حافلة بالعطاء في القوات المسلحة (أسس فرع التوجيه المعنوي) ثم قدم خبراته في كثير مرافق الخدمة العامة، ثم رئيس هيئة تحرير جريدة الأيام واشتهر فيها بعموده (شيء من حتى)، إلا أن عطاءه الفني لم يتوقف لحظة، فأثرى المكتبة السودانية بأكثر من خمسين أغنية، وكانت كثير من أغنياته من ألحانه أو بتعبيره أنه كان (يدوبي غناه).
أذكر في ليلة من ليالي مركز راشد دياب (ربنا يديهو الصحة والعافية) العامرة بالثقافة والغناء والتشكيل عقدت ندوة عن أغنية (ربيع الدنيا)، تحدث فيها السر قدور وكثيرون من ضمنهم الشاعر عوض أحمد خليفة، فقال: “أما عن نفسي فأنا إنسان بسيط أكتب الشعر وأعتز بأغنياتي، و(ربيع الدنيا) تلك الأغنية التي نُسبت لي لم أكتبها وحدي، إنما شاركني في كتابتها الشاعر الفذ مبارك حسن خليفة، وأذكر أنني بدأت في كتابتها وأنا في القطار متجهاً نحو شندي، سألني مبارك عن آخر الحروف فأعطيته الأبيات، فاندهش لتوارد الخواطر، لأنه استجمع أبياتاً في ذات صياغ النظم أخذتها فكان هذا المزج البديع.).
أذكر يوماً آخر نحن في جامع الأدارسة بالموردة، الحي الذي عاش وتربى فيه شاعرنا، سألت أحد المصلين عن الخطيب الذي كان يعظ الناس ويتلو القرآن بصوت جميل، فقال لي هو عوض أحمد خليفة، فسرني منه هذا الوجدان العامر بذكر الله والصوت الذي يفيض صفاءً وجمالاً. ومن الطرائف التي تروى عن شاعرنا أنه كان يخطب في المصلين حتى أبكاهم، فقال له أحدهم أبكيتنا يا مولانا.. فقال له (من زمان قاعدين نبكيكم.)!!.. نعم والله لطالما أبكانا على محبوباتنا المطرشقات والمتخيلات وعمّر وجداننا بالغناء الجميل. رحمة الله على خديجة كافي وجعل مثواها الجنة.