فور شحن أمتعتنا خرجنا نودع الأحباب فردا فردا حيث سلمت ابنتي ما معي من عملة سودانية مستبقيا بعضها تحوطا وختمت بحضن سبطي الصغير ( ابن البنت) مليا .. صديقي. ومضيت قائلا مع مبدعنا إبراهيم عوض: ألم الفراق أشكي لمين أنا؟ وطافت بذهني حكمة حبوبتي الباهرة: الولد التمر وولد الولد عسل التمر. لكن لماذا التمييز في التسمية بين الحفيد والسبط؟ يقال إنه يعود إلى أن ولد الابن بمثابة اليد اليمنى فيما ولد البنت يمثل اليسرى.. ظني أنه ليس حكما محكما.
ختمنا إجراءات الجوازات لتستقبلنا الصالة الداخلية التي بقينا فيها حتى ما بعد انتصاف الليل المتمدد. وتذكرون أني بثثتكم منها الحلقة الأولى من منظومة هذه السلسلة ” بمقدوركم تجميعها “.
الواحدة صباحا اندفعت الطائرة التركية العملاقة بسرعة تتزايد حتى حلقت فوق الخرطوم التي لمحتها وسط أنوار متناثرة مودعا ثم انطلقت شمالا وحولنا عشرات الأتراك وخلق من مختلف الجنسيات وقليل من السودانيين.
سبحت بذهني متوقفا عند مقصدنا تركيا التي بنت إمبراطورية واسعة شملت مصر والسودان والحجاز وإريتريا وغيرها ولاتزال بصماتها تنبض وبيننا كثر ينحدرون من أصول تركية التي عرفت بآسيا الوسطى والأناضول.
نعبر مصر والبحر المتوسط بمحاذاة قبرص ثم نجتاز بحر مرمرة لتنخفض الطائرة تدريجيا وتهبط والصباح يصدح لسراة الليل من أمثالنا في مطار قراند الدولي في استانبول التي عرفت ببيزنطة واستانة قبلا’ ملتقى الشرق والغرب مستحوذة على الشهرة أكثر من العاصمة السياسية أنقرة .. احدث مطارات الدنيا وأفخمها بسعة ١٥٠ مليون مسافر سنويا قابل للاتساع ل ٢٠٠ مليون’ غير أن الصين تعتزم تدشين مطار أضخم بسعة مليون فدان العام الآتي.
أخذنا حقائبنا الصغيرة فإذا الشابة التي كانت تجلس امامنا يمينا تقبل على تحيتنا متسائلة إن كنا نوبة ثم أردفت بأنها حلفاوية زوجها محسي وبالسؤال اتضح أنه منا وفينا وعلمنا أنها متجهة للندن فسألتها إن كانت في حاجة لمساعدة فقالت إنها معتادة السفر لبريطانيا وودعتنا شاكرة.
خرجنا مع المئات حيث أقلتنا سيارات إلى مباني المطار الحدادي مدادي لتهرول الجموع للاصطفاف أمام الكاونترات غير أني اتجهت لمكتب الخطوط التركية وسألت عن بطاقة تناول الطعام مجانا في حالة الترانزيت كما كان شأني في مطاري الكويت والإمارات مرات عدة ولكنهم نفوا وجود هذه الخدمة فسألت عن الموضع الذي سنكون فيه ريثما نبارح فوجهونا للطابق الأعلى ولكنا لم نجد طريقا للعبور فاتضح أنه لا سبيل بغير اجتياز الصف والتفتيش ففعلنا ثم صعدنا بالسلالم الكهربية فإذا بنا في صالات ممتدة انيقة فسيحة لامعة عامرة تتعانق فيها على الجانبين المحال التجارية الحديثة فسألنا عن خدمة ال واي فاي المجانية التي وجدتها في مطار أبوظبي ولم تكن متاحة هنا.
راجعنا رحلتنا التالية في اللوحة الضخمة المنصوبة في وسط الصالات مع عشرات الرحلات فتبين أن امامنا ٥ ساعات فتناولنا فطورنا في إحدى الكافتيريات الحديثة ثم سألنا عن المسجد فوجهونا فدخلت أم محمد مسجد النساء مع عدد من الموريتانيات بتيابهن الزاهية المهفهفة وملاحتهن وقد أخذن بالتوب السوداني من خلال رحلات الحج والعمرة التي كانت تأتي قوافلها لتعبر سواكن وقبلها ميناء عيذاب في محيط حلايب قرونا. وعلاقتنا سحيقة ببلاد الشناقيط حيث رأس محمد صالح الشنقيطي أول مجلس تشريعي في السودان وأياديه بيضاء بمنشآته الخدمية. وتنداح مواشي موريتانيا لعمق سهول السودان خلال سنوات الجفاف.
بدوري وجدت حمامات المسجد لامعة يتولاها عمال دائمون بمكانسهم ومطهراتهم فدخلت مسجد الرجال وكان بعض أهل موريتانيا بزيهم التقليدي في ركوع وسجود فانتحيت متمددا جانبا قصيا متوسدا حقيبتي في رهق فتصادف جلوس شاب قربي فسألت عن وجهتهم فقال إنهم بين متوجهين للعمرة وآيبين منها وإنهم يصلون المدينة في ٥ ساعات من استنبول فقلت: نرحب بكم في السودان طريق أسلافكم والرحلة من الخرطوم لمدينة المصطفى نحو ساعتين ونصف فوافقني ثم طلبت مساعدته على تفعيل خدمة ال واي فاي في جوالي ففعل فاستقبلت فرحا محادثة جاري يستفسر مشكورا وتوالت الاتصالات.
بعد نحو ٤ ساعات راجعنا جدول السفريات في اللوحة ثم اتجهنا للبوابة المحددة ومنها هبطنا للدور الأرضي لتراجع بعض الكاونترات وثائقنا لنجد أنفسنا في ختام الإجراءات نصعد سيارة أوصلتنا لطائرة عملاقة رابضة أمامنا فدخلنا جوفها لرحلة طويلة تستغرق ١٧ ساعة طيران متصلة.
ترى أي مدينة سنهبط؟
الأسبوع التالي لقانا أحبابي.
أنور محمدين
ولاية واشنطن