هتف الصحافيون في وجه أعضاء المجلس العسكري الذين شهدوا توقيع الاتفاق السياسي بين المجلس وقوى الحرية والتغيير “مدنية.. مدنية”، وانهمرت دموع صحافيات وهن يهتفن للشهداء.
هذا المشهد يعبر عن مشاعر السودانيين التي يمتزج فيها
الحزن بالفرح، حزن على الشهداء الذين مضوا وهم يدافعون عن وطنهم، وعن مستقبله الذي
أرادوه مختلفاً عن ماضٍ مترع بالجراحات والآلام.
وكان في
الإمكان ألا تزهق كل هذه الأرواح لو أن المجلس العسكري الانتقالي أدرك أنه أمام
استحقاق تاريخي يجعل أعضاءه في سجل الشرف الوطني إلى يوم الدين، وقد حفظ لهم الشعب
انحيازهم لثورته المجيدة، وتغنى بهم، إلا أن جريمة فض الاعتصام التي لا يزال
ينكرها ويدفعها دفعاً المجلس العسكري وقوات الدعم السريع أوجدت حاجزاً نفسياً
بينهم وبين الشعب، ومن هنا كان الحزن، وعدم الفرح باتفاقٍ سيظل مقترناً بالدم الذي
سال من غير سبب، إلا طمع الدنيا، والتكالب على السلطة.
أما الفرح الذي في قلوب كثير من السودانيين فمصدره
أنهم يتوقون إلى استئناف دورة الحياة بتفاؤل في غدٍ أفضل على مستوى ما قدموه من
تضحيات منذ انطلاق ثورتهم الظافرة، التي مثَّلت عملاً تراكمياً تجسَّد في النهاية
في ثورة باذخة لها خصوصيتها وأسباب تفردها.
ويمكن القول إن الباحثين سيشبعونها بحثاً ودراسة؛
لكونها غير مسبوقة في تاريخ الثورات، وقد شكلت وجداناً وطنياً واحداً في بلد ذاق
ويلات الحرب الأهلية، التي كانت سبباً في فقدان جزء عزيز منه، وكان تشكل هذا
الوجدان الذي عبر عنه شعار الثوار عند بدء شرارة ثورتهم: “يا العنصري المغرور
كل البلد دارفور” محل شك، ثم جاء الاعتصام الذي أكد تمازج هذا الشعب وتوحده
حول شعارات تعلي قيمة الانتماء الوطني، بعيداً من أي تحزبات وانتماءات ضيقة.
إن الاتفاق السياسي الذي تراه قوى سياسية وحركات مسلحة
وجموع من المواطنين ناقصاً ومعيباً، يراه كثيرون بداية مرحلة جديدة يكون الفعل فيها،
لا التنظير، هو الفيصل والحكم.
وما ينبغي أن نغفل تخوفات المنتقدين، ولا نعظم تفاؤلات
المباركين، لأن استئساد العسكر، وقد وصلوا في مرحلة سابقة إلى حد إنكار أي اتفاق
مع قوى الحرية والتغيير، غير مستبعد، كما أن ارتفاعهم إلى مستوى الحدث وإدراكهم
المسؤولية الوطنية التي هم بصددها أمر متوقع، لأن الخيار المتبقي هو الفوضى التي
يمكن أن تجعل الوطن والجميع في مهب الريح.
وما ينبغي أن نفكر فيه ملياً أنَّ هناك مهدداتٍ ماثلةً
أمام الوطن، ومن أهمها فلول النظام السابق، بكتائبه، وميليشياته، وفاسديه الذين
يخشون على ما اكتنزوا من دم الشعب المسكين، وعرقه، كما أن هناك الظلاميين من القوى
المتطرفة التي تنعق حيث يكون الفراغ السياسي.
إن حالة (اللاحكومة) التي نعيشها منذ انهيار النظام
السابق أدت إلى قطع أرزاق كثيرين، وتوقُّف عجلة الإنتاج في قطاعات واسعة، وتضرُّر
التعليم العام والجامعي، ولولا حكمة الشعب المعلم لعمت الفوضى وعدم الاستقرار، إلا
أن استمرار هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى الانفلات الأمني الذي لا تؤمن عواقبه.
والأهم من ذلك أن كل يوم يمضي يعطي فرصةً لمن أفسدوا
ونهبوا ثروات البلاد ليهربوا بغنائمهم، ويخفوا آثار جرائمهم.
إن الوثيقة الدستورية هي المحك الرئيس لاختبار نوايا
العسكر، والوقوف على مدى جديتهم في أن يكونوا شركاء حقيقيين مع القوى الوطنية
لتجاوز هذه المرحلة الضبابية، والوصول بالوطن إلى بر الأمان، حيث يكون للشعب
الخيار في أن يعطي ثقته لمن يراه مستحقاً لها.
ولعل دموع المبعوث الإثيوبي السفير محمود درير وفرحته بالاتفاق السياسي تجعلانا ندرك قيمة هذا الوطن الذي ينظر إليه الآخرون باحترام وتقدير، وقد عبرت تلك الدموع عن مدى إشفاق محبيّ السودان عليه، ومشاعرهم الصادقة تجاهنا، فهل أدركنا نحن قيمة أن نتوَّحد. ولننسى تطلعاتنا الذاتية الضيقة، ونعمل سوياً من أجل أن ننهض بالوطن، وتعبر به إلى آفاق أرحب تجعل المعاناة شيئاً من الماضي.