عبدالواحد الأنصاري
حين كانت الكاتبة الإنكليزية العظيمة جين أوستن مشغولة بوصف ورق أشجار بلادها في سائر الفصول وجلسات الشاي والوجوه الوسيمة والمتجهمة والعواطف المشبوبة وإثراء عبقرية الإنكليزية، كان الهنود والبنغال يموتون جوعاً بسبب النهب والتنكيل الإنكليزي.
هذا أول ما تذكِّركَ به لحظات الاطلاع الأولى على كتاب «عبقرية اللغة، حكاية اللغة الأم يرويها خمسة عشر كاتباً»، تحرير ويندي ليسير وترجمة حمد الشمري، ولا بد من حفظ اسم الكتاب على هذا النحو، لأن «عبقرية اللغة» وحدها عنوان ربّما يتعاوره أكثر من كتاب.
ترجعك مقالة «طريق العودة» للبنغالية بهارتي موخرجي إلى مدن الهند والبنغال، التي وصفها ابن بطوطة بأنها «بلاد مترامية الأطراف، ينمو فيها الأرز غزيراً ولا مكان في الأرض كلها يفيض بخير مثلها»، ثم تسترجع معركة بلاسي (عام 1757م)، ونعت كلايف مدينة دكا إبان ذلك بأنها «واسعة مكتظة بالسكان، وغنية مثل لندن»، لتصل بعد ذلك من خلال التتبع التاريخي إلى أنها خلال 90 عاماً بعد ذلك أصبحت كما شهد عليها تشارلز تريفيليان (عام 1840م) بأن «الغابة والملاريا تغزوانها بسرعة… سقطت دكا، مانسشتر الهند، من مدينة جِدّ مزدهرة إلى بلدة صغيرة شديدة الفقر»، تلك هي عاصمة بنغلادش اليوم، كما يقول تشومسكي.
وفي مقالة الصينية إيمي تان (من كتاب عبقرية اللغة نفسه) تروي لنا الكاتبة أنها عبّرت بشدة عن رفضها في إحدى المرات عرض الإبحار على متن باخرة إلى جزر هاواي، وأن الأمر «ما كان ليهمها حتى وإن كانت الرحلة إلى تمبكتو»! عند هذا الموضع بالذات يطالعنا ابن بطوطة مرة أخرى عبر وصف الفرنسي فيلكس ديبوا لتمبكتو، الذي يتبع نقله عن الرحالة بقوله عن ماضي هذه المدينة العريقة: «إن الأعمال التجارية في تمبكت تسمح بالمزيد من وقت الفراغ، وعلينا أن ننتظر حتى وصول سلع معيّنة أو حتى تختفي أو ترتفع أسعار سلع أخرى، ويقوم التاجر الغريب بالجلوس مع أصدقائه في منتصف النهار أو في المساء لقضاء بعض الوقت والتسلية، ويأكلون جوز الكولا والتمور والبسكويت والكسكس ولحوم الحمام والماعز، ويشربون الشاي والقهوة أحياناً، ويقدمون الهدايا لرجال الدين الذين يُدعون للحضور، ويقصون القصص التاريخية المسلية، ويحكي كل ضيف قصته عن بلاده، وبهذه الطريقة يعرف الكثير من المعلومات عما يدور في مراكش وتوات وطرابلس، وأيضاً معرفة الكثير عما يدور في أوروبا وفرنسا ذاتها، ويعيش في تمبكت الكثير من العرب وأحياناً يبني بعضهم بيوتاً من أقماع السكّر؛ لأن القوافل تحضر الكثير من هذه المادة، ويفضل سكان غدامس وتونس وفاس العيش في تمبكت، ويعلّمون عبيدهم إعداد وجبات مختلفة مع الحلوى، ويقومون بإشعال البخور في كل أنحاء المنزل».
لكن ماذا حصل لتمبكتو تلك بعد مجيء الإنكليز والفرنسيين إليها؟ هذا مقطع من رسالة اللورد كلارندون إلى الشيخ البكاي الكنتي في تمبكتو (عام 1859م )، من حصيلة وثائق توضح خطط البريطانيين وطريقتهم دون حاجة إلى تعليق: «إلى الشيخ المحترم وعالم العلماء المثقف الذي يشع بنور علمه وذكائه…. وأحيط سيادتكم بأن ملكة إنجلترا قد سمعت عن تقدير الدكتور بارث المدعو عبدالكريم بن العرب، والذي زاركم بناء على طلبها ليجدد الصداقة والعلاقة الموجودة بينك وبيننا، ولكي نقدم سيادتكم لها، لقد أفادنا بارث بالنية الطيبة التي قابلتَه بها والتي لا يمكن أن ننساها، ولقد دافعتَ عنه وحميتَه من الكفَرة (انظر إلى التكفير على لسان لورد إنجليزي!) الذين لم يستطيعوا أن يميزوا بين الخير والشر… إن الخطابات التي أرسلتَها وصَلَتنا، وقرأنا وفهِمْنا ما فيها، وإنه لسرور عظيم لنا. ولقد فهمتَ آمال ونيات حكومة بريطانيا نحوَك. إن ما نريده هو أن تَفتح عيون العرب في الجنوب لإقامة تجارة بيننا، ونحن نقدر ذلك تماماً… لقد أقسمنا لك أن الصداقة التي تربطنا لن تزول مع القرون، وأن كل ما يطلبه العرب سوف نلبيه دون زيادة أو نقصان. وسوف نساعدهم في كل ما لا يقدرون على القيام به، ونظراً لأن حكومتنا قوية فسوف نحمي شعبَك إذا استعانوا بنا».
وفي الأعوام نفسها التي كانت البنغال تعاني فيها شرقاً كان هذا ما يجري في تمبكتو غرباً، (أي: عام 1894م)، والكلام لا يزال للمؤرخ ديبوا: «انتقمنا لقتلانا حسب عادة الصحراء، وحيث إننا سيطرنا على الدولة والسوق التي كان الطوارق يحصلون منها على حاجتهم، اضطرَّت قبائلهم المختلفة إلى الاستسلام، ولا أستطيع أن أؤكد أن هذا الاستسلام والرضوخ كان نهائياً أم لا، وكان من الضروري من حين لآخر أن نؤكد لهم أن سلطانهم قد انتهى، وأنهم قد وجدوا سيّداً جديداً».
وبعد مئة عام فقط من هذه الحادثة (1994م) كانت البنغالية موخرجي التي استقرت الآن في أميركا تكتب فخورة بلغتها الثانية، وكان الطوارق الذين أرسلهم الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي للمشاركة في حرب لبنان قد عادوا، وبدؤوا يحشدون ويحرضون على الانتقام والقتال في الشمال بثلاث لغات، فرنسية أفريقية، وطارقية ضاربة في القدم، وعربيّة حسّانيّة محكيّة، وتحققت نبوءة الفرنسي قبل قرن من الزمان:»ماذا كان مصير مدينة تمبكت لو لم تحتلها فرنسا؟ إننا نستطيع أن نتخيل الصورة بسهولة: إن الطوارق سيتحدون مع الكونتا والفولبي والمغاربة مثلما حدث منذ ثلاثين عاماً (1860-…) ضد التوكرور… كما أن الطرق من مراكش وتوات وطرابلس سوف تترك السودان (هذا القُطر الضخم الذي احتللناه بوسائل بسيطة) مفتوحة للمؤامرات الأجنبية، ولإدخال الأسلحة والذخائر إلى الرجال المتعصبين الذين يقودهم بعض المرابطين، ونكون عرضة لظهور شيخ من جديد عائد من مكة، أو لبعض الحركات المهدية القادمة من توات، وستضيع نتيجة سنوات طويلة من نضالنا وجهدنا».
توفيت موخرجي عام 2017م، بعيداً جداً عن أرض البنغال، وحصيلتها مجموع من الدرجات العالية في التعليم الإنكليزي، وروايات تناقش قضايا هجرة الآسيويين إلى الغرب، وامتعاض ظاهر للعيان من عجائز أسرتها المتعجرفات، ومنزل في أميركا لم يصادره الرهن العقاري الأميركي منها. وفي العام نفسه نهضتُ أنا(كاتب هذه السطور) من اكتفائي بلغتي العربيّة الوحيدة التي تضلّعتُ منها هنا في الرياض، لأستعيد ما تبقّى لديّ من مفردات الطارقية التي حفظتُها سماعاً من والدتي وأنا لا أزال صبياً ناشئاً في جبال مكة، وتشرفتُ بمساعدتِي اثنين من رفاقي في اللسان الطارقي على محاولة أولية لإخراج معجم تماشقي (طارقي – عربي)، وكانت حصيلتي ولا تزال زيارتين إلى تمبكتو المغطاة بزحف الرمال، إضافة إلى بعض التنغيص في المطارات الأفريقية بسبب الشك المستمر في هويتي الحقيقية، ولقاء يتيماً مع الرئيس الأسبق ألفا عمر كوناري، أهدى إليّ فيه بطاقة أعماله على سبيل المجاملة، وعدداً من الأعمال الروائية والقصصية التي لم أبلغ بها شأواً بعيداً ولا غاية جليلة، سوى أنني أفكّر بالعربيّة، وأحلُم أحلاماً نجديّة، وأحمل ذكريات طفولة مكّية، وألفَي كلمة طارقية أسعفتني بثلاث أو أربع رحلات بعيدة إلى مجاهل الصحراء الكبرى، وفي حقيبتي مجلدان فقهيّان، ونسخة من كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، وترجمة إحسان عباس لرواية موبي ديك، ومقالة منشورة (عام 2010م) في صحيفة الحياة بعنوان: تمبكتو بين نابليون الذاهب وكسرى المقبل.
باحث وروائي.
نشر المقال في صحيفة الحياة