ما حدث في صباح يوم ٢٩ رمضان الموافق ٣يونيو ٢٠١٩ والمعتصمون صائمون، بعد أن صلوا صلاة الفجر، كان حدثاً عظيماً زلزل أركان الدولة السودانية وأدخل الشعب السوداني في امتحان عسير.
هجمت القوات النظامية بشكل متوحش واعملت أسلحتها في الشباب والنساء والأطفال المسالمين والعزل، قتلاً وسحلاً وحرقاً واذى جسيماً واغتصاباً للنساء والرجال معا. لم يراع المعتدون حرمة الأنفس والدماء السودانية، ولا حرمة الشهر الحرام، والضحايا صائمون، وأغلبهم نائمون بعد أن أدوا صلاة الفجر في جماعة ثم توسدوا أياديهم النحيلات وافترشوا أرض الميدان الصلبة، كانوا مطمئنين لأنهم على حق يعترف به الجميع حتى المجلس العسكري.
نام الثوار مطمئنين وما كانوا يتوقعون اعتداء مفرطاً كالذي كان، لأنهم كانوا يستأمنون جيشهم، الذي تبادلوا معه الملح والملاح، والإفطار والعشا والسحور، ويشاركونه السيجارة والتمباك في كل ليالي رمضان، ويدندنون معه المدائح وأغاني الحقيبة وأهازيج الثورة، ويشاركونه التفاؤل والأمل العريض بالسودان الجديد الذي صنعوه سويا في ميدان الاعتصام.
ما كان الثوار يفكرون مجرد تفكير ان يتم الغدر بهم، فهم لم يقرؤوا عن حالة واحدة من الغدر الجماعي في تاريخ السودان كله، ومن كان أسوأ الناس وأكثرهم تشاؤما لم يتوقع غدراً كالذي حدث.
ان ما تم في يوم فض الاعتصام يمثل جريمة غير مسبوقة في تاريخ السودان، وهو أكثر قسوة وفظاعة من الذي حدث في ميدان رابعة العدوية بمصر. والفرق ان القتل في ميدان رابعة كان قتلاً بالسلاح الناري في وجود مقاومة، ولم يشهد ميدان رابعة إهانات لفظية وحسية، وقتلاً بالضرب والطعن المباشر حتى الموت، ولم يشهد ميدان رابعة حالات اغتصاب، ولم يشهد سحلاً وتمثيلاً بالجثث واخفاءً لها في النيل، ومنعاً لسيارات الإسعاف بالدخول لنقل الجرحى، ومنعا للطاقم الطبي من اسعاف المصابين ونقلهم حملاً او حتى بالسيارات الخاصة الي أقرب المستشفيات ليتم معالجتهم.
ان ما حدث في فض الاعتصام يمثل جريمة ضد
الإنسانية كاملة الأركان، لا تشبهها في التاريخ الا جريمة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك، التي قامت بها جيوش الصرب،
بحق المسلمين لأسباب إجرامية
مغلفة بدوافع عرقية ودينية..
كل الخيوط والوقائع تؤكد وقوف المجلس العسكري بكامل هيئته وراء جريمة فض الاعتصام النكراء، من حيث التخطيط والتنفيذ والمتابعة. هذه الجريمة خطط لها ميدانياً ونفذها المجلس العسكري، لكن هناك قرائن تشير الي مشاركين آخرين مع المجلس العسكري في هذه الجريمة من باب تقديم النماذج والتحريض على الفعل.
وبعد أن أشرقت الشمس على تفاصيل الجريمة وانطلق الإنترنت بمئات الفيديوهات الموثقة لبعض جوانب الحدث، تأكد المجلس أن أمره قد انكشف، وأن كل التدبير التي قدرها لم تخف الحقيقة، فلم يكن امامه الا محاولة طمس الحقيقة من خلال القيام بمسرحية هزلية، يعترف فيها بالجريمة ويبدي الأسف على وقوعها ثم يعلن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، تكون مهمتها ليس كشف الحقيقة التي يعلمها الجميع، وانما إلقاء المزيد من التغبيش على الحقيقة ومحاولة إخفاء الادلة من خلال سيناريوهات مصنوعة، تجريها اللجنة مع ممثلين بارعين، يرمون بالدلائل بعيدا عن المجلس العسكري، وربما يتم في اطار ذلك التخلص الكامل من كل الذين تم اعطاؤهم التعليمات من الضباط الميدانيين الذين كانوا يقودون الكتائب على الأرض. ولعل هذا الاستعجال والكلفتة، في التعامل مع هذا الملف الخطير، من خلال تحقيق قصير مزور مع عدد عشرين شاهداً فقط ولمدة لم تتجاوز الأسبوعين او ثلاثة، على مجزرة مات فيها المئات وفقد فيها المئات، انما يؤكد سوء النية ومحاولة التهرب من تحمل المسئولية على جريمة مثبتة.
ان جريمة مجزرة ميدان الاعتصام
امام القيادة العامة، هي جريمة غير مسبوقة في تاريخ السودان وربما في العالم، ويجب التعامل معها
بشكل مختلف، لأنها هي في ذاتها جريمة مختلفة ولا تشابه الجرائم المعتادة. وهي جريمة
دولة ضد مواطنيها، وهي جريمة غير اعتيادية، من حيث استخدام قوة مفرطة من قبل القوات
النظامية، مع مجموعة مسالمة وغير مسلحة من الشعب السوداني. كما انها جريمة غريبة من
حيث درجة العداء الذي يفوق الحد المطلوب لمجرد فض اعتصام سلمي، ما كان يتطلب فضه أكثر
من شرطة مسلحة بخراطيم المياه والبنبان.
وعليه فان هكذا نوع من الجرائم،
يعتبر جرائم ضد الإنسانية ويجب أن توكل مهمة تقصي الحقائق فيه لجهة متخصصة في الجرائم
ضد الإنسانية كما هو الحال في منظمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لما
تمتلك من قدرات وخبرات بشرية وإمكانيات مادية قادرة على الوصول إلى كل حدود الجريمة
وعلى كشف الحقائق حول كل المعتدين وكل الضحايا.. كما أن المجلس العسكري بحكم وقوفه على القوة المسلحة
الكاملة بالدولة، وتكامل كل قرائن الجريمة علي، فانه لن يوافق على اي لجنة او اي
تحقيق يجرمه، الا اذا اتي ذلك من قبل لجنة دولية محمية بإرادة دولية أعلى من
ارادته المحلية.
كما أن مثل هذه الجريمة تقتضي
فتح التحريات والشهادات فيها لكل افراد الشعب السوداني وغير الشعب السوداني من الذين
كانوا حضورا بالخرطوم او بالقرب من ميدان الجريمة، في تلك الليلة وصباحها، ليقدموا
معلومات ضافية وتفصيلية حول ما شاهدوه او سمعوه، ومن يمكن ان يتعرفوا عليهم من الذين
ارتكبوا الجرائم.. كما ان اهراق نقطة دم واحدة، وذهاب روح واحدة، تعتبر أمرا عظيما
يجب الكشف عن تفاصيله كلها فضلا عن المئات من الضحايا. يجب معرفة الذي جرح وآذي واغتصب
وقتل ومن أخاف المعتصمين. المطلوب هو الاقتصاص للجميع، وعدم افلات اي مشارك في جرائم
ذلك اليوم من العقاب، سواء كان باتخاذ القرار او قيادة القوات او متابعة تنفيذ الجريمة
على الأرض، أو حتى من كان يعلم وسكت عن الإفصاح فهو يعتبر شريك لأنه لم يعين على تجنب
وقوع الجريمة. .
هذه ليس جريمة عادية تفتح
وتقفل في ثلاثة اسابيع فقط، كما يحاول ان يتعامل معها المجلس، العسكري بكل خبث،
لكنها جريمة يجب أن تبقى
مفتوحة مائة عام على الاقل، حتى يموت اخر مشارك فيها. وخير مثال على هذه الجريمة مذبحة سيربنستا في البوسنة والهرسك التي حدثت في يوليو العام ١٩٩٥م والتي أدين فيها الكثيرين
ومازالت مفتوحة. كما يجب أن يفتح المجال حتى لمن كانوا شركاء ان يكونوا شهود ملك، اذا
أبدوا استعدادا للأدلاء بشهاداتهم، على أن يخفف عنهم العقاب ويطلب من اهل الضحايا عفوهم
اذا قدموا معلومات مؤسسة عن المجرمين الحقيقين تعين على كشف تفاصيل الجريمة.
يجب أن أن يعرف الشعب السوداني
من قتل من وكيف تم القتل لكل حالة، وكيف تم انتهاك المحرمات ومن انتهكها، وكيف تم أذى
الكثيرين ومن آذاهم.. هذه كلها أمور مهمة جدا، حتى نقبض على كل الجناة ونفضح الفعل
الإجرامي، فمن شأن ذلك أن يشفي صدور أهل الضحايا، ويردع كل من يفكر في هكذا فعل فيما
بعد، ويفضح الذين يدعون الحق المطلق وهم في الحقيقة مجرمون معترفون ومنافقون يكذبون
على الناس.
ويجب الوصول كل المفقودين
احياءً او
أمواتا،
لأن من قام بهذا الفعل الشنيع، لا يتردد في اخذ هذه الجثث ودفنها في الأرض او رميها
في النيل، بعيدا عن موقع الجريمة، في محاولة منه لإخفاء الدلائل، ولذلك لابد من معرفة
مواقع المفقودين أحياءً
او امواتناً،
وهذا امر يحتاج لعشرات
السنين وليس بضع اسابيع.
ولكي يتم التحقيق الدقيق
والشفاف، لابد من إلزام المجلس العسكري بتسليم قوائم بأسماء كل الذين شاركوا في جريمة
فض الاعتصام، للتحقيق معهم فردا فردا.. وليس الاكتفاء بالمعالجة الاجمالية المستعجلة،
كما يحاول ان يفعل المجلس العسكري. ومهما يكن من رأى حول ما قام به المجلس العسكري
فان هذه الجريمة لن تنتهي بيوم او شهر أو حتى مائة سنة، وهي من نوع الجرائم التي لا
تنتهي بالتقدم، وستبقى خنجرا يطعن في الضمير الوطني الحر، الي ان يتم الاقتصاص للضحايا،
وستبقى عارا وفعلا قذرا يطارد أعضاء المجلس العسكري كل حياتهم، ولن ينجوا من العقاب
الحقيقي او العقاب المعنوي الذي سيواجه هم به الشعب السوداني، على هذا الفعل القذر
مهما فعلوا..