أزعم أن نصف المرضى السودانيين بالمستشفيات تعود توعكاتهم لأسباب نفسية، وتحديدا للتأزمات السياسية الماسكة بخناق الساحة حاليا، فالبشر من لحم ودم وأعصاب، ومن البدهي أن تؤثر الأجواء المحيطة بصحتهم شاءوا ذلك أم أبوا !
أكثر الضغوط التي يعاني منها الناس هي خوفهم من ضياع ثورتهم وبروز الأطماع ومن خلفها النعرات، فتنشب التعقيدات من حيث لا يحتسبون، وتضرب الصواعق ضربتها وسط احتفال القوم بالغيث المنهمر !
أعتقد أن المجلس العسكري يعيش الآن أفضل حالاته النفسية، لأنه ترك الكرة في ملعب غرمائه الذين يسميهم شركاءه، فإذا بالشركاء يدخلون في تشاحن لم نتوقعه أبدا، وإذا بالمخاطر تحيط بالثورة من داخل البيت الثوري لا من خارجه.
أكبر الآفات أن جانبا من الثوار يريدون حل كل التعقيدات المتراكمة في الساحة الوطنية دفعة واحدة. فالمسألة لم تعد محصورة في تضميد الجراح الغائرة التي تسبب فيها نظام الإنقاذ البائد، بل تمددت لقضايا أكثر تعقيدا كإعادة صياغة المفاهيم المجتمعية، وتفكيك الدولة السودانية الموروثة لإعادة تشكيلها، ومخاطبة جذور المشكلات السودانية .. وكل ذلك يريدون إتمامه بين يوم وليلة !!
والأثافي تكتمل بثالثتها، وهي تحويل الفترة الانتقالية – حتى قبل أن تبدأ – لصراع سياسي بين شركاء النصر .. يسيل فيه اللعاب للكراسي، وترتفع فيه سقوف المحاصصات، رغم أن الحكومة المرتقبة هي حكومة تكنوقراط، لا مجال فيها لما يسعى له بعض الناشطين في المشهد الماثل.
الحاذقون في السياسة يعرفون أنه من الكافي جدا التوافق على الخطوط العريضة، كي يبدأ المسار الاسعافي للدولة الراقدة في غرفة الانعاش، فالاستغراق في التفاصيل، والتوجس المتفاقم من نوايا الآخرين .. كوابح تعطل الخطى، وتعطي المتربصين فرصة تاريخية لردم الثورة والثوار في مطمورة التاريخ.
الوقت لا يرحم المتقاعسين عن الحراك الذكي، والخسارة القادمة إذا وقعت فأثمانها فادحة على الجميع، والمتطلبات الوطنية العاجلة أشد إلحاحا من مشكلات مزمنة نتفق جميعا على ضرورة حلها لكنها تحتاج عنصر الوقت لإزالة بثورها الملتهبة من وجه السودان.
نحتاج الكثير من حكمة الأطراف لتفادي الانزلاق الخطر، ونحتاج عقل العقلاء، لإنقاذ الوطن، فثمة جروح يزداد غورها كل يوم، وثمة مرضى تهزمهم النفسيات .. وينتظرون العلاج قبل ينضموا لركاب الراحلين !