كتب المستشار القانوني بالبحرين بشير محمد صالح شقيق الأديب السوداني العالمي الطيب صالح مقالاً رائعاً يكشف أسراراً عن عالم هذا الطيب الذي شغل الدنيا، وأمتع أهلها، وذهب بهدوء.
يقول مولانا بشير الذي توفي إلى رحمة الله تعالي في البحرين في مارس الماضي (2019م) :
رحلة الطيب الأخيرة كانت إلى مقابر السيد البكري بأم درمان. لقد كان الطيب كثير الأسفار، له فى كل بلد أصحاب وأصدقاء وخلان. كان عشقه الأول مصر، يشد إليها الرحال كل شتاء على موعد مع عبدالرحيم الرفاعي صديق عمره. يأتي إليها الطيب من لندن التى اتخذها مقراً ويؤوب إليها عبدالرحيم من سويسرا أوبة غريب الدار إلى وطنه.
وفى مصر استقر رفيق صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته صلاح أحمد محمد صالح الأديب الأريب الشاعر الفحل الذى تغنى بالسودان من على البعد ومن على القرب، وكذلك كان والده أستاذ الأجيال أحمد محمد صالح.
وفى مصر كان رجاء النقاش رحمه الله أول من نوه بأدب الطيب. وفيها صديقه محمود سالم مؤلف كتب الأطفال المعروف أطال الله عمره وغيرهم كثير التقيت ببعضهم وسمعت عن الآخرين.
كان الطيب يُعَرِّجُ عَلَيَّ فى الدوحة ومن بعدها فى البحرين وهو فى طريقه لمصر، وعندها يتحول منزلي إلى ملتقى ثقافي. فالطيب لَيِّن الجانب موطأ الأكتاف وحلقته محضورة. مظهره بسيط، وطعامه بسيط، ويؤمن أن طعام الاثنين يكفي الثلاثة.
وفى آخر مرة زارني فيها بالبحرين مكث أطول مما كان يفعل، حيث حضر عيد الأضحى. وقد أظهرت فحوصات أجريت له بالمستشفى الدولي بالبحرين على أثر وعكة ألَّمَت به بوادر المرض الذى أُكِّدَ فى لندن.
وكنا كثيراً ما نقضى جزءاً كبيراً من الليل فى تذكر ناس البلد ممن هم على قيد الحياة ومن انتقل.
وقد خططنا لإصلاح المنزل الذى طال غيابنا عنه ونشط لذلك نشاطاً كبيراً، غير أننا انشغلنا بمرضه عن ذلك.
وفى ليل يوم الثلاثاء السابع عشر من مارس عام تسعة بعد الألفين أتاني صوت سارة متهدجاً حزيناً يخبرني أن حالة أبيها حرجة.
وهبطت أرض لندن فى الصباح الباكر من اليوم التالي، وحالما سمح للتليفونات بالعمل وبينما أُمَنِّى نفسي بلقائه أتاني صوت من يخبرني أن صاحب الأمانة قد استرد أمانته.
مادت بي الأرض واختلطت علي الرؤى غير أن هاتفاً هتف بي أن تَجَمَّل وتَصَبَّر وشد حيلك وابقى راجل واعمل على مواراة جثمان أخيك حيث يجب أن يوارى فى ثرى بلده الذى لم يتخل عن حمل جنسيته طوال عمره وظل يشيد بذكره فى كل المحافل.
استقبلني صديقه الوفي محمود صالح عثمان صالح وابنه أسامة وأخذاني إلى منزل أسامة القريب من المطار، وعندما فَجَّ الفَجَّاج واستبانت الأشياء هرعا بي لداره برينس بارك لاستأذن زوجته وبناته فى نقله للسودان. فأنكرتني الدار وأنكرتها إذ كان صاحبها يرقد مسجى فى أحد المستشفيات بلندن. صاحبها الذى كان يهُشُ للقائي ويأخذني فى أحضانه معانقاً معانقة الأب لابنه الذى آب من سفر بعيد: والدار لو كلمتنا ذات أخبار فوا أسفى عليك يا طيب القوم. فأذنت بذلك جولي رفيقة دربه وصاحبته فى سرائه وضرائه.
وهكذا وُوري جثمانه فى ثرى السودان فى مقابر البكري بأم درمان بعد أن صلى عليه خَلْقٌ كثير.
والسيد البكري صاحب المقبرة للذين لا يعرفون هو نجل الشيخ إسماعيل الولي الكردفاني صاحب الطريقة الإسماعيلية دفين القبة المشهورة بالأبيض ووالد السيد المكي الذى نَوَّه بذكره خليفة المهدي قائلاً: ” لا خليفة إلا خليفة المهدي ولا سيِّد إلا السيد المكي “. ووثق شاعر الطريقة ذلك بقوله: ” السلطان قال ما فى سيِّد إلا دا المكي المؤيد “. والسيد المكي هو المسمى باسمه الحي المعروف بأم درمان حيث تجمع فيه أتباع الطريقة الإسماعيلية.
وأهل كرمكول ودبة الفقراء كلهم إسماعيلية، وكان جدنا صالح أحد خلفائها. ولا أزال أذكر كيف كنت أقرب له حمارته فى يوم العيد بعد أن أضع عليها السِّرج والفروة ويمتطيها لابساً عباءته السوداء ومرخياً عزبته على كتفه الأيسر، رجل أبيض اللون ذا سمت ومهابة.
وفى العراء الواقع خارج البلد تقام صلاة العيد أمام قبة الشيخ ود بُوبَة حيث يؤم الناس الخليفة بكري ابن الخليفة محجوب. وبعدها يقرأ خطبة العيد من أوراق توارثها أباً عن جد حتى كادت أن تتفتت من القدم. وقد كلفني ذات مرة بنقلها إلى كراسة جديدة خوفاً عليها من الضياع ففعلت.
وكأني أسمع صوته وهو يقرأ منها ” ولا مكسورة القرن ولا مشقوقة الأذن ولا العرجاء ولا العجفاء ولا المريضة ” هذا عن البهيمة التى لا تجزي كأضحية.
وبعد الصلاة تقام حلقة الذكر أمام قبة الشيخ ود بُوبَة على أنغام النوبة والطبل والخلاَّف والباز ويرتع القوم على صوت المنشد ” أقول أنا إسماعيل بالحمد أبدأ * مقالي فى مدح الرسول وأنشىء “.
وينتهي الذكر بعد عدة طبقات حيث يجلس القوم يستمعون إلى صوت المنشد :
“حلقة الذكر روضة من جـنان
يرتع الذاكـــــــرون رتع نعيم
وبهــم حـفـت المـلائك فيهـا
يا له مــن جـزيــل خير عميم
هكذا فى حديث عالي الجناب مصطفى كل حادث وقديم”
ثم يذهبون بسفينتهم إلى قباب الشيخ محمد ود دوليب وأبنائه السبعة حيث يقيمون حلقة ذكر أخرى، ثم حلقة ذكر ثالثة أمام قبة الخليفة صالح وينتهون فى الجامع الكبير بدبة الفقراء.
وفى مقبرة الشيخ ود دوليب دفن جدنا صالح بعد أن أربى على المائة سنة بكثير، ودفن فيها والدنا وإخوانه إمام وأحمد وعبدالدائم وحمزة وكان آخرهم موتاً علي الذى عَمَّر أيضاَ كأبيه.
أما بقية أبنائه فقد دفن سيد بالخرطوم ودفن علوب ببورتسودان ودفنت ابنته الوحيدة رحمة ببورتسودان. ولم يبقى من أبنائه على قيد الحياة إلا عمنا عباس صالح أطال الله عمره، ذلك الرجل الكفيف الذى رآه الناس أيام العزاء يبكي بحرقة. جاء من بورتسودان حيث يقيم تقوده ابنته.
ولقد رأيت أن يدفن الطيب بأم درمان بدلاً من أن يرقد جنب أبيه بكرمكول لأنني أرى ويرى الكثيرون أن أم درمان هي السودان متجمعاً فى بلدة. اختارها الثائر محمد أحمد المهدي كبقعة عسكر فيها جيشه الذى واجه غوردون وهزمه. وبعده صارت قبلة لكل ثائر وملاذاً لكل حر، وسكنها رجال أفذاذ، وهي عش الصالحين ومأوى الكتاب والأدباء والمثقفين. وهي بذلك نعم المرقد الأخير للطيب. وهل كان الطيب إلا للسودان عاشقاً ولأهله محباً. لقد قال عنه صديقه الحميم السفير الشاعر سيد احمد الحردلو مَنَّ الله عليه بالعافية فى قصيدة من عيون الشعر: ” اسمك صار وطناً “.
وأنا فى طريقي عائداً من المقابر بعد أن ووري جثمان الطيب الثرى حزيناً، مهيضاً، مكسور الخاطر عنَّ لي ما كان يقوله عمنا محمد نور وهو رجل خبر الدنيا ومرت عليه فيها أيام ثراء وبطر. ثم عدت عليه الأيام وذهب المال وبقي ذلك الشموخ الذى عُرِفَ به أهلنا فى كل تقلبات الزمان يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
كان يقول: عندما قيل لأحدهم أخوك مات صرخ قائلاً: آخ يا ضراعي إلا تقطع”.
وهكذا كان حالي، كنت كمن قطعت يمينه وهو يتحسس مكانها آملاً أن تكون لا تزال هناك. إذ لم يكن الطيب أخي فحسب بل كان أبى بعد رحيل أبى، وكان صديقي الصدوق – لقد كان ضو القبيلة وزينة الحي لا لأنه صار أديباً – فلا أحسب أن أهلنا كانوا يأبهون لما كان يكتب بل لأنه كان ذلك الولد الهدي الرضي حلو الشمائل جَبِّار الخواطر.
الطيب ولد بكرمكول فى فريق المشاوين ليس فى هذا المنزل الذى نقلت صوره القنوات الفضائية ولكن فى منزل آخر هدمه البحر فى فيضان سنة 1948. وكان جدنا صالح يعرف بمشاوي لأنه كما حَدَثَّنِي سار على قدميه من كرمكول إلى سيدي عكاشه بمصر مخترقاَ أرض الدناقلة والمحس والحلفاويين. وكان يحكي عن رحلته تلك نوادر كثيرة. لذا كان أولاده يُعْرِفونَ بأولاد مشاوي.
كان جدنا يحفظ شجرة نسبه ويرددها على مسامعنا وكان يقول نحن شوافعة يعود نسبنا للإمام الشافعي. وكان والدهم رجلاً ثرياً له أطيان ونخيل بقرية عَبسة بالقرب من قرية قشابي. وقد تزوج ريا أخت الفضل عظيم البديرية النافعاب فولدت له صالح وإخوانه رمضان وأحمد وامام والبنات زينب وعائشة وحسنة. وعندما كثرت القلاقل فى أواخر حكم الخليفة التعايشي أتوا إلى كرمكول بعد موت أبيهم حيث انضموا إلى خالهم- وأهملوا أراضي عَبسة. وزَوَّجَ والدهم أختهم زينب للفقير الركابي أحمد محمد زكريا ساكن العفاض وقشابي. وقبة جدهم حبيب نسي ظاهرة تزار حتى يوم الناس هذا. قال عنه ود ضيف الله صاحب الطبقات: ” حبيب نسي الركابي مسكنه فى ضنقلة قشابي من أولياء الركابية الكبار وله كرامات كثيرة “، وكان أهل دنقلة إذا تمنى أحدهم يقول: ” اللهم ارزقني كرامات حبيب نسي وعبادة دوليب نسي وعلم ولد عيسى”.
وقد ولدت زينب عدداً من الأولاد والبنات كانت صغراهن والدتنا عائشة أحمد زكريا التى مات والدها وأمها حبلى بها. وقد تزوجها والدنا وهو دون العشرين وهي دون الرابعة عشرة.
وقد أصاب أولاد مشاوي، كما كانوا يُعْرَفون، ثراءً فى بورتسودان على يد كبيرهم أحمد جعلهم قبلة الأنظار. ثم دار عليهم الزمان فذهبت الثروة وعادوا فقراء.
كان الطيب قد سبقني لبورتسودان حيث انتظم فى المدارس النظامية إذ هو يكبرني بعشر سنوات. وعندما أُخِذْتُ لبورتسودان، كان الطيب قد التحق بمدرسة وادي سيدنا الثانوية. ثم التحق بالمدارس العليا التى صارت جامعة الخرطوم الحالية. وكنت التقي به فى البلد وفى بورتسودان أثناء الإجازات الدراسية.
وفى الخمسينات من القرن الماضي، كان يراسلني وأنا بمدرسة بورتسودان الوسطى من لندن بخطابات كان يصف لي فيها لندن وعجائبها. وقد احتفظت بتلك الخطابات مع كتبي فى منزلنا بكرمكول وامتدت اليها الأيدي وعرضت فى القنوات الفضائية دون استئذان.
وفى حياة الطيب شخصيتان عظيمتان لا يعرفهما الناس أثرتا عليه، إما وراثة أو معايشة: أولاهما والده محمد صالح أحمد الذى كان يُكَنَّى بأبى الطيب وبه كان فرحاً فخورا، وكان إذا افتخر يقول: ” أنا أبو الطيب “.
أبانا هذا كان محباً للعلم والعلماء لأنه ابتدأ الدراسة فى مدرسة دبة الفقراء ثم انقطع عنها وكان لذلك أسفاً أشد الأسف. وكان محباً للصالحين، وكان يفتخر بأن الفقيه بخيت الذى كان يعتكف فى غار بدبة الفقراء لم يخرج إلا لزيارته فى كرمكول. وكان محباً للعابد السائح محمد عبدالحفيظ الملقب بالحنين. وما زلت أذكر كيف كان يأتي من لا مكان إلى منزلنا القديم وسبحته الألفية اللالوب فى عنقه وركوته وشعبته فى يده.
دفع والدنا بالطيب للمدارس فى وقت كان ناس بلدنا لا ينشطون للتعليم، إذ كانوا يحبون العاجلة من حوالات شهرية من عمل الأولاد المبكر شعارهم فى ذلك” يوماً يشيلك صباك ويوماً يشيلك جناك”. والدنا صبر على الطيب كما صبر عليَّ من بعده رغم فقره حتى قطع كل المراحل التعليمية. وفيما بعد عندما عرف الناس قيمة التعليم كان هو الذى يتصدى للجان لإدخال أبناء إخوانه وأقربائه وناس البلد للمدارس. ولا زلت أذكر قوله لمن سأله من أعضاء إحدى اللجان: ” أنت يا شيخ محمد عندك كم ولد” ديل أولاد السودان يتعلموا ينفعوا البلد. لقد كان رجلاً طيب القلب محباً لإخوانه ولمن يمت له بصلة.
كان يحب الطيب ويفضله، وفى أخريات أيامه أوصاني قائلاً: ” خلى بالك من أخوك”.
الشخصية الثانية التى تركت بصماتها على الطيب هي والدتنا عائشة بنت أحمد زكريا. لقد كانت تقول الشعر فى كل المناسبات وتحفظ مدائح ود سعيد وحاج الماحي وترددها بصوتها الشجي:
“قال لك ود سعيد النفسه عاجبالُ
للريا والعجب شال نومه مع بالُ
ربنا يا كريم للعبد حوالُ
حول حاله لأحسن الحالة
وزوجه من حسان الجنة أمثال”
أو
” العبيد البُوم الفدن
نفسه خاينه تحب الشتم
حين مرضت قعدت تهم
ربي يعفاها وتترحم
وفى هواها تقوم تتلخم “
وكانت قَصَّاصَة ماهرة تحكي الأساطير وتحول شخصياتها لرجال ونساء يمشون بين الناس. وكان الكبار قبل الصغار يلتفون حولها لسماع قصصها فى ليالي بلدنا المقمرة. وكم كان للقمر من سحر فى كرمكول. كان النساء يبكين مع فاطمة التى تبحث عن أبيها الذى غاب فى سفر فقتل عمها أخاها بسبب تافه:
” ما شفتو أبوي يا جلابة
أخضر وطويل يا جلابة
عمي أخي أبوي يا جلابة
قتل محمد أخوي يا جلابة
عشان فرد قندول يا جلابة
بياكلوا الزرزور يا جلابة
كانت تغني ذلك بصوت شجي حزين يبكي السامعين. وكانت تبتدئ قصصها بقولها: قالوا وقالوا: الله يكفينا شر قلنا وقالوا.
غير أن عمتنا ستنة التى عاشت بمصر زماناً وصارت تعرف بستنة بنت الريف كانت تبدأ قصصها بقولها:
كان يا ما كان، ما يحلوا المقال إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. وكان على الحاضرين أن يرددوا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
كرمكول قرية عادية على حَدَبَة النيل ليس بها شيئاً يلفت النظر. شريط من الأرض تكسوه أشجار النخيل مع مساحات ضيقة لزراعة المحاصيل قَلَّ من كان يعتمد عليها اعتماداً كاملاً فى معيشته. كانوا يعتمدون على المبالغ التى ترسل إليهم كل شهر من الأزواج والأبناء بالبريد أحياناً وباليد مع القادمين فى أغلب الأحيان.
الملفت للنظر فى كرمكول هو أهلها. ولأنهم كانوا بعيدين عن الحكومات وما كانت الحكومات تأبه بهم فقد كونوا مجتمعاً مستقلاً قائماً بذاته معتمداً على نفسه فى أحواله الدينية والاجتماعية والصحية والتعليمية. فهنالك النساج والحداد والطهار والبصير ومعلم القرآن والقابلة.
كانت حكومتهم هي العمدة وكاتبه والشيخ والجراي وكانوا يحلون المشاكل بالتراضي وبالتي هي أحسن.
المرأة فى مجتمع كرمكول كانت معززة مكرمة وكانت عاملة فى كل أطوار الزراعة من سليك ورمي للتيراب ومتيق وجابيق وتذرية للحبوب بعد النوريق.
وكان من أكبر العيوب أن يضرب الرجل امرأته لأن عليه أن يشكوها إن أخطأت لاوليانها من أب أو أخ أو عم. فان ثبت عليه الخطأ كان عليه أن يسترضيها برضوة من حلي أو عود تمر.
وكان من العيب إن يذكر الرجل للناس السبب الذى من أجله طلق امرأته فان سأله متطفل يجيب: ” أكلنا عيشنا ” أو ” العيش انقطع ” فإنها فى النهاية عرضه وغالباً ما كانت تمت له بقرابة قريبة. وشعارهم فى الزواج ” إن كان ماعونك فاتح ما تغطى ماعون الناس “.
ومن شخصيات كرمكول التى كانت مميزة ومعروفة على نطاق السودان والمقربين من والدنا العمدة سعيد ميرغني فضل. كان هذا الرجل ذكياً لماحاً ونسابة لا يجاري. وفوق ذلك كان أول من يخف للعزاء ومن يشارك فى الأفراح. وكان كريماً ومضيافاً وأخو إخوان. وكان محباً للمتعلمين من أبناء البلد. وفاز بمقعد فى مجلس الشيوخ فى العهد الديمقراطي.
ولم أر مجتمعاً متسامحاً كمجتمع كرمكول يتعايش فيه حملة القرآن مع بقية الناس دون تكبر أو ترفع، ولا يسأل أحد أحداً عن خصوصياته.
لقد أحب أهل البلد الطيب لا لأنه كان أديباً أو ذا شهرة، فليس ذلك من اهتماماتهم فالرجل عندهم إن طار وان قعد فهو ولد فلانة وولد فلان. وإياك أن تتحذلق أمامهم فقد يلصقون بك اسماً لن يفارقك حتى الممات.
أحب أهل البلد الطيب لأنه كان ذلك الولد الودود الذى يسايرهم فى كلامهم جبراً لخواطرهم – وعندما صار كاسباً يصرف الماهية كان يجود عليهم ببعض ماله. وكان الطيب يعود للبلد من لندن فيجد أمي قد سَمَّنَّت له خروفاً يعرفه أهلنا بخروف الطيب. وكان أول من يحمل لها بشارة عودته تنفحه بجنيه كامل. واذكر إن امرأة من أهلنا رأتني أنزل من اللوري فى إحدى إجازات الجامعة وظنتني الطيب فصارت تصيح من بعيد لتضمن البشارة: واجيدلك يا عائشة واجيدلك. وعندما تأكدت إنني لست هو قالت: إي بس- دا بشير وقالت لأخرى تريد أن تستأثر بالبشارة: لا تجري تقطعي نفسك دا بشير. هذا لأنني كنت طالباً ما عندي ما أعطيه وفوق ذلك كنت أذهب للبلد فى كل إجازات الجامعة وما أكثرها.
والآن وقد أتى ذكر المحاسن بعد انتقال المحسن أشهد بأن الطيب كان يرسل لي مبلغاً معتبراً أقوم بتوزيعه على ذوي الأرحام، وكان ذلك يتم فى صمت وتكتم عرفت به.
قال عمنا طلب السيد للطيب وقد ساعده فى حفر بئره: ” والله أهلك الكان ما سموك الطيب ما كان عرفوا لك اسم”. ولقد كان الطيب فى ذلك الوقت طالباً فى الثانوي.
رحمك الله يا طيب الأخلاق والمروءة والعشرة وعفا عنك. كيف تَأَتى لك أن تذهب وتتركني هكذا وحيداً أحمل العبء وحدي بعد أن وهن العظم واشتعل الرأس شيباً.