لا أعرف سبباً للاستغراب من المحاولات الانقلابية التي
يعلنها المجلس العسكري، حتى بلغت ست محاولات، ومصدر استغرابي أننا لم ندرك بعد أن
المجلس نفسه هو الذي هيأ لهذه المحاولات، لأنه ليس منطقياً أن تظل قيادات النظام
البائد حرة طليقة حتى اليوم.
وعدم اعتقال تلك القيادات أو التحفظ عليها أو فرض
إقامة جبرية عليها يعطي مؤشراً أن هذا المجلس امتداد للنظام البائد، وظهير له، ولا
ألوم من يتوصلون إلى هذه النتيجة.
كما لا تثريب على من يذهبون إلى أن هناك اتفاقاً ما
بين بعض قيادات المجلس العسكري ورموز في النظام السابق على أن يعاد إنتاجه بطريقة
تجعلها تستفيد من قاعدتها في تحقيق كسب سياسي في المستقبل، كذلك الحديث الذي تم
تداوله عن لقاء حميدتي وكرتي، والاتفاق على حشد تأييد له، إلا أن كرتي ورفاقه
فهموا الرسالة خطأً، وعملوا على تنظيم صفوفهم، وإعادة حزبهم إلى الحياة تحت لافتة
جديدة، وهذا ما أثار حميدتي وأغضبه، لأنه كان يريد تشكيل حزب يكون المؤتمر الوطني
جزءاً منه، إلى جانب الإدارة الأهلية، والطرق الصوفية، والمكونات الأخرى التي ظل
يطلب ودها بأسلوب مكشوف.
إن المنطقي بعد أي ثورة أخذ الحيطة، ووضع كل من أسهم
في تثبيت أركان النظام المستهدف بالثورة تحت المساءلة، ولا يكون ذلك مقتصراً على
الساسة، بل يشمل المسؤولين السابقين، والإعلاميين ورجال الإعلام الذين كانوا أداة
للنظام، مع النظر في وضع وسائل الإعلام القائمة سواء كانت حكومية أو خاصة، ولكن
شيئاً من هذا لم يتم، بل هرب شقيق الرئيس المخلوع بهدوء إلى تركيا، وأعاد المواطنون
آخرين كانوا يريدون الهرب، وظل رجال الأعمال الذين أفسدوا وولغوا في مال الشعب طلقاء
بلا أي مساءلة، مما يعني إمكان قيامهم بمحو آثار أي فساد وتهريب ما يريدون من مال
وذهب وكل ما خف وزنه، بل ما ثقل أيضاً.
إننا لا نقول بتعليق المشانق وإلقاء التهم بلا ضوابط
قانونية، وإنما ندعو إلى التحوط وأخذ حق هذا الشعب المسكين، الذي دفع الثمن غالياً
من عرقه ودمه، حتى راح كثير من زهرة شبابه شهداء في سبيل أن ينال حقوقه، ويؤمن
مستقبله، ويقيم أساساً قوياً لدولة مدنية حديثة تليق بتضحياته الجسيمة.
إن ما قاله قائد الانقلاب الأخير الفريق هاشم عبدالمطلب
يظهر أن الإسلاميين لن يتخلوا عن أوهام دولة الخلافة الراشدة التي تقيم العدل،
وتنشر الإسلام الذي اختطفوه وجعلوه ديناً خاصاً بهم، يصيغون قيمه، ويحددون أتباعه،
فليس كل من قال شهادة التوحيد مسلماً كما نفهمه بوصفنا مسلمين موحدين، بل لا بد من
أن ننضوي تحت راية الحركة الإسلامية، ونعلن الولاء والطاعة، لننال صك الاعتراف
بإسلامنا.
وقد كتب كاتب يوصف بأنه إسلامي مقالاً يحذر من حقارة
الإسلاميين، لأن لا سيف ولا بندقية ولا مدرعات تخيفهم، وهذا التهديد المعلن بياناً
يعني أن هناك ما هو أكثر من الانقلاب.
إن قطع الطريق على من يريدون التلاعب بمستقبل هذا
البلد يتطلب أن يلعن العسكر أباليسهم، وأن يحسنوا النوايا، وأن يفعلوا شيئاً
نافعاً يكتب في سجلهم الممتلئ بالفواجع ومنهم من توهم أنه كان يخدم البلد.
ولعلهم يتمثلون نموذج تونس الذي قام شعبها بثورة تُوجت بحكم مدني، جعل انتقال السلطة فيها سلساً ومحترماً بعد وفاة رئيسها.
إن الشعب السوداني بثورته التي أذهلت العالم يستحق حكماً ديمقراطياً مثالياً لا مجال فيه للعنصرية والجهوية والقبلية، ولا لادعاء فئة كالعسكر تميزاً وريشة على رؤوسهم.
دعوناً في الختام نقول إن المجلس العسكري الانتقالي يصنع الانقلابات بتقاعسه عن محاكمة رموز النظام البائد، وتركه أبواقه تنعق إلى اليوم محرضة ضد الثورة وأهدافها.