لم يُمهلني مُقدِّم البرنامج التلفزيوني الذي دُعيت فيه للتعليق على تقرير النائب العام حول مجزرة فض الإعتصام، لم يُمهلني المذيع لإكمال جملتين فوق بعضهما، وقد ذكرت للمذيع فور إنتهاء البرنامج أنه دعاني لحضور الحلقة معه في الإستديو، لا الحديث فيها، ولذلك، فقد رأيت من المناسب طرح ملاحظاتي على التقرير في هذا المكتوب.
في البداية أعيد ما نوّهت بالبرنامج التلفزيوني من أنه ليست المصيبة في أن تُدلّس الحقائق وتغيَّب العدالة كما حدث من واقع تقرير لجنة تحقيق لجنة النائب العام حول مذبحة فض الإعتصام، ولكن المصيبة فيما ما يترتب على ذلك من إنهيار في ثقة الناس في مهنة النيابة بإعتبارها الجهة القضائية الوحيدة صاحبة الإختصاص التي يمكن أن يلجأ إليها كل مظلوم.
والحقيقة التي لم ينتبه إليها النائب العام في هذه القضية بالذات، أنها قضية لا تقبل التلفيق وتزييف الحقائق، ذلك أن الشهود الذين وقفوا على وقائع المجزرة، وشاهدوا أعمال القتل هم ملايين من أبناء الشعب من بين الذين يمتلكون هواتف ذكية، بعد أن تابعوا – على الهواء المباشر – لحظة بلحظة كل مراحل وخطوات الجريمة، وتعرّفوا على وجوه المجرمين عن طريق تثبيت الصور، كما شاهدوا صفوف القتلى بالعشرات وهم مستلقون على الأرض وإلى جوارهم الجرحى والجنود يوجهون لهم الإهانات والشتائم بدلاً عن إسعافهم.
لقد كان من الواضح أن النائب العام، قد وضع نتيجة التقرير أمامه (براءة المجلس العسكري) ثم نسج الحيثيات التي تُوصِله إلى هذا الهدف، حيث إنتهى إلى أن مسؤولية تلك المجزرة تنحصر في عدد محدود من الضباط أشار إليهم بالأحرف الأولى (ليس هناك في القانون ما يمنع من الإشارة إلى أسماء المتهمين أو حتى عرضهم بالصور كما حدث لآخرين في عهد حكم المجلس العسكري)، ويمكن إستخلاص قصور التقرير وقفزه للنتائج على حساب المهنية في النقاط التالية:
- إستهل التقرير حديثه عن ميدان “كولومبيا” قبل أن يتحدث عن ميدان الإعتصام، وجاء في التقرير أن روّاد ميدان كولومبيا “إستغلوا” تجمهر الثوار في ميدان الإعتصام، ليتخذوا من ميدان “كولومبيا” مكاناً لممارسة أفعال مخالفة للقانون، وهو زعم كاذب ومفضوح، ذلك أن معظم العاصمة المثلثة شهود رؤيا وعيان على أن مرتادي ميدان (كولومبيا) قد إتخذوه موطناً لهم منذ سنوات.
- إكتفى التقرير بنسبة جزء كبير من الجرائم إلى أشخاص ملثمين وآخرين مجهولين دون أن يوضِّح الجهود التي بذلتها النيابة والشرطة في البحث عن أولئك المجرمين والوصول إليهم.
- ذكر النائب العام أنه لم تحدث حالات إغتصاب في ميدان الإعتصام، بما يُفهم من صياغة العبارة أن النائب العام يُقر بأن هناك جرائم إغتصاب قد وقعت خارج الميدان، وهو بالفعل الأمر الذي حدث، فقد أرتكبت جرائم الإغتصاب كإمتداد لأفعال جريمة المجزرة بواسطة أفراد القوات التي شاركت في فض الإعتصام، بعد أن فرغوا من عمليات القتل وإنتقلوا إلى المنطقة المجاورة التي وقعت فيها جرائم الإغتصاب (داخليات الجامعة). وقد إكتفى النائب العام بإنكار وقوع تلك الجرائم داخل الميدان، وهو صاحب الإختصاص سواء وقعت داخل الميدان أو خارجه.
- ذكر النائب العام في تقريره أن الضحايا الذين التي تم إنتشال جثثهم من مياه النيل، قد ثبت أنهم لقوا حتفهم بطلقات نارية، كما أنه قد تم ربط أقدامهم بقوالب أسمنت حتى لا تطفو على سطح المياه، ثم إنتهى من نفسه لنفسه، إلى القول بأن تلك الوفيات ليس لها علاقة بمجزرة فض الإعتصام، دون أن يوضح كيف توصّل إلى هذه النتيجة ولا إلى الدور الذي قامت به النيابة صاحبة في الكشف عن الجناة وتوضيح الظروف التي وقعت فيها تلك الجرائم على بشاعتها.
- أغفل النائب العام الإشارة إلى أهم بينة وردت حول هذه القضية، وهي الإقرار الذي أدلى به الفريق الكباشي على شاشة التلفزيون حول صدور قرار من المجلس العسكري بفض الإعتصام (وليس ميدان كولومبيا)، وما إذا كانت لجنة التحقيق قد قامت بإستجواب الفريق كباشي وبقية أعضاء المجلس حول هذا الإعتراف. خاصة وأن هناك حقيقة ثابتة تسند وتؤكد صحة تصريح الفريق كباشي، وهي أن فض إعتصام القيادة العامة قد تزامن مع فض الإعتصام في (13) ميدان بمواقع أخرى تجمهر فيها المعتصمين أمام الحاميات العسكرية بمدن وعواصم الأقاليم، بما يؤكد أن قرار فض (الإعتصمات) حقيقة ثابتة وصادر عن سلطة مركزية.
- أغفل التقرير الإشارة إلى المفقودين حتى الآن.
- أغفل التقرير الإشارة إلى عن تراخي سلطات الأمن بالدولة عن التدخل لوقف المجزرة برغم أنها إستغرقت ساعات طويلة وتقاعس أجهزة الدولة المختصة عن إسعاف المصابين.
- وأخيراً، ليس صحيحاً أن السبب الذي منع النائب العام من الرد على أسئلة الصحفيين بعد تلاوة التقرير هو حرصه على عدم التأثير على سير التحريات بحسب زعم معاليه، ذلك أن النائب العام كان يمكنه أن يمتنع عن الأجوبة التي يكون لها مثل ذلك التأثير، ولكن السبب الحقيقي وراء ذلك هو خشيته من الإجابة على الأسئلة والنقاط التي وردت في هذا المقال، وربما نقاط أخرى فات علينا ذكرها.
تبقى القول أنه لم يكن من المُؤمّل أكثر من ذلك في (نائب عام) قبل على نفسه في إستسلام ورضوخ وهو يتلقى التعليمات من سلطات الشرطة، والأخيرة هي الجهة التي ينص القانون على أنها تأتمر بأمر النيابة وتُنفِّذ الأوامر التي تصدر عنها، فقد نُشِر بالصحف اليومية أن ضابط سجن كوبر قد (وجّه) النائب العام بالإمتناع عن إرسال أي أوامر جديدة بالإفراج عن الموقوفين لديه تحت التحقيق الذي تُجريه النيابة نفسها، وجاء في الخطاب أن سلطات السجن تتلقى التعليمات حول أولئك الموقوفين من المجلس العسكري وحده.