إن للثورة في السودان حواضن ما جعلها ثمرة تراكم امتد ثلاثين عاماً حتى أفلحت في صنع الظرف الذي أدى لخلع الطاغية. إن للجنة الأمنية التي رفضت قرار الطاغية ثم خلعته دوراً في نجاح الثورة.
إن التفاوض بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير مبرر موضوعياً، فأثمر تفاهماً من منطق الشراكة. ولكن تصريحات من بعض قوى الحرية والتغيير هزت الثقة في الشراكة، ووجود قوى ساهمت في الثورة ولم يشملها التفاوض عزز تهمة الإقصاء.
صحيح أن بعض تصرفات القوى الثورية بمواقف تصعيدية أضرت بمناخ التفاوض، ولكن الذي عصف بمناخ التفاوض أحداث أهمها:
• فض الاعتصام الثوري من أمام القيادي العامة بالقوة ما أدى لدموية وحشية واستشهاد العشرات وجرح المئات. الاعتصام كان سلمياً وتحول لساحة تعبوية خالية من العنف، وكان الصبر عليه إلى أن تتكون الحكومة المدنية الانتقالية هو النهج الصحيح، ولكن إذا أريد فض الاعتصام فتحقيق ذلك بالوسائل الناعمة هو الأمثل. “ما دخل الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا دخلَ العُنفُ في شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ”.
هذا الفض الدموي للاعتصام صار أكبر ملوث لبيئة التفاوض من أجل الخلاص الوطني.
• التزم طرفا التفاوض بتكوين لجنة مستقلة للتحقيق في جرائم فض الاعتصام بالقوة الوحشية، وقبل تحقيق ذلك كون المجلس العسكري لجنة رسمية أجرت تحقيقاً معيباً، وقدمت تقريراً عار عن الصدقية، وكان الأمثل أن يعتبر هذا الإجراء باطلاً، والانتظار لتكوين اللجنة المستقلة. الخطأ الجسيم هو قبول هذا التقرير وإعلانه. هذا الإجراء كان مستفزاً للرأي العام، ضربة أخرى لمناخ التفاوض. كونتُ لجنة برئاسة د. يوسف الأمين وعضوية: المستشار البشرى عبد الحميد، وأ. عبد الرحمن عبودة، ود. ولي الدين الفكي، ود. سيد قنات، وم. عبد الرحمن علي عبيد، وأ. الصادق حمد، وأ. عماد مأمون، وضابطي الجيش والشرطة المتقاعدين وليد التوم وحسن أحمد شريف، جاءت بتقرير موضوعي وشامل مناقض تماماً للتقرير الحكومي المعيب.
• وفي يوم الاثنين 29 يوليو الجاري سير الطلبة في الأبيض موكباً احتجاجاً على الظروف المعيشية. إنه موكب سلمي وكان الواجب أن تحميه السلطات إلى أن يبلغ منتهاه، ولكن تعرض لإجراءات وحشية استشهد نتيجة لها عدد من الطلبة وجرح عدد أكبر.
السلطة الحاكمة مسؤولة عن حماية هذه المواكب السلمية، ولا يقبل أحد تقييد الاتهام ضد مجهولين. والبطش بها جريمة كبرى أشعلت الاستنكار والإدانة. مقولة عمر رضي الله عنه: ويلك يا عمر، لو أن بغلة تعثرت في العراق لسُئل عنها عمر لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق. ولاية الأمر معناها المسئولية عن معاش الناس وأمنهم.
نحن في حزب الأمة أكدنا الالتزام بالإعلان السياسي الذي اتفق عليه، وراجعنا الوثيقة الدستورية المقترحة لإزالة أية عبارات مانعة للوفاق، ولكن المناخ الذي أفسدته هذه التصرفات وآخرها مجزرة الأبيض عرقل التفاوض المنشود.
ولكي لا تسبب عقبات دائمة يرجى أن يشمل التحقيق المنشود حوادث الأبيض، وأن يكون تحقيقاً مستقلاً، وأن يخضع الجناة للمساءلة العادلة والحازمة. وأن ينال الضحايا الإنصاف.
نعم هنالك من يستغل هذه الظروف للإطاحة بالتفاوض من حيث هو لصالح أجندات حزبية، والصيد في الماء العكر.
المجلس العسكري هو الآن ولي الأمر، وعليه أن يقدم بشجاعة على الاعتراف بالمسؤولية عن أمن المواطنين، وأن يدعم التحقيق المستقل العادل بصورة ذات صدقية.
إذا أزليت هذه الأسباب الموضوعية من مناخ التفاوض يرجى أن يكون الإعلان السياسي، والوثيقة الدستورية محل اتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، وأن يتفقا على كيفية مشاركة القوى السياسية الأخرى.
مع ذلك ينتظر أن تكون بعض الجماعات السياسية غير متجاوبة بل معرقلة للاتفاق. تحفظات قوى المقاومة المسلحة مشروعة، ويرجى أن يتفق الطرفان على توافر المناخ الملائم للسلام، وعلى مشاركة المقاومة المسلحة فيها، وجعل السلام من أولويات الحكومة المدنية.
هنالك قوى سياسية في المعارضة حاديها السياسي ليس الحل بل اصطياد الشعبية من المواقف، وهنالك قوى الردة التي همها عرقلة التجربة الانتقالية، وقوى ثالثة تعرقل السلام لأنها تتكسب من ظروف التوتر وغير معنية بشقاء النازحين واللاجئين.
ينبغي ألا يسمح لهذا الثالوث المقيت أن يعرقل تنفيذ مطالب الإعلان السياسي المتفق عليه، والإقدام على توقيع الوثيقة الدستورية التي تنص على حل المجلس العسكري وإقامة سلطة سيادية بأغلبية مدنية، وعلى تسليم السلطة التنفيذية لحكومة مدنية تجعل من السلام، والإصلاح الاقتصادي، والحرص على التحول الديمقراطي أولوية قومية، وإزالة آثار النظام المخلوع في كل المجالات.
هذه المنظومة تمثل أجندة الخلاص الوطني، وتنفيذها واجب وطني ينبغي ألا يسمح للثالوث المقيت بعرقلة تنفيذها، وإذا لزم لهزيمة المعرقلين يلجأ للاحتكام للشعب عبر استفتاء بنعم أو لا للأجندة الوطنية. استفتاء يشمل الشعب السوداني في الداخل والخارج كما يشمل معسكرات النازحين واللاجئين.
الالتزام بالأجندة الوطنية وتنفيذ مطالبها واجب وطني لا ينبغي أن يسمح للمعرقلين تعطيله.
إن لسان حال شعبنا يصيح بأقوى العبارات حي على فلاح الوطن.