إن المفكر السوداني الدكتور حيدر إبراهيم علي عندما قال إن ثورة ديسمبر 2018م هي الاستقلال لم يتجاوز الحقيقة. نعم، إنها أعظم ثورات شعبنا الذي أكد أنه يستحق حياة كريمة تليق بما قدمه من تضحيات، وما أثبته من قدرة عالية على حماية ثورته.
عندما هبت رياح ما عرف بالربيع العربي كان التساؤل: أين الشعب السوداني من هذا الربيع؟ بل تجاوز بعضهم الحدود ورمى شعبنا العظيم بالاستكانة والرضا بالواقع المرير، ونسى هؤلاء أو تناسوا ثورتين سبقتا ذلك الربيع، واقتلعتا دكتاتوريتين بتضحيات عظيمة، وببسالة منقطعة النظير.
وعندما هبت ثورة ديسمبر كان هناك من يشكك في قدرة شعبنا على اقتلاع نظام مستبد جثم على الصدور 30 عاماً، حتى هدد المدعو علي عثمان بأن نظامهم باق، وهناك من يحميه، ومستعد للتضحية في سبيل استمراره، ونسى في غمرة غروره معدن شعبنا غير الهياب، الذي واجه البارود بالسيوف إيماناً بحقه في الحرية، والانعتاق من ظلم المستعمر.
كانت الحصة الأولى في دروس ثورتنا نبذ العنصرية بهتاف داوٍ: “يا العنصري المغرور كل البلد دارفور”، حين أراد النظام البائد اللعب على وتر الجهوية، واتهام حركة عبدالواحد بأنها وراء ما اسماه التخريب مع الشرارة الأولى للثورة.
وكانت الحصة الثانية بروز الكنداكة السودانية محرضة
بزغرودتها، وشعرها، وغنائها، وتشكيلها، وبأمهات الشهداء اللائي تقدمن الصفوف
راضيات محتسبات في سبيل أن تشرق شمس الحرية على وطن أراده أبناؤهن أفضل وأجمل.
وكان دور المغتربين وهم بعيدون عن بلادهم حصة تدرس في
حب الأوطان، فقد هبوا ناقلين نبض ثورتهم حيث يعيشون، فكسبوا تعاطف الشعوب التي احتضنتهم،
وأوصلوا صوت السودان، حين مارس النظام البائد التعتيم الإعلامي، فكانوا حقاً
دبلوماسية شعبية فاعلة، أكدت أنهم قوى ناعمة تمثل مصدر قوة لبلادنا.
وأدى مهنيو السودان من أطباء وصيادلة ومعلمين وصحفيين وفنانين ومبدعين ومزارعين وعمال وغيرهم أدواراً عظيمة في دفع الحراك الثوري، كل في مجاله، مما أكد وحدة قطاعاتهم، وقد تجسدت في تجمع المهنيين الذي كان في مقدمة الثورة، والموجه لها بحكمة واقتدار، في درس بليغ عن كيفية قيادة شارع يغلي.
وكان تشكيل قوى الحرية والتغيير من أعظم إبداعات شعبنا، إذ مثل بوتقة للقوى الحية في السودان، وتوحيداً للجهود والرؤى؛ مما أسهم في بلوغ الثورة كثيراً من أهدافها بخطى واثقة.
ولم يستطع المجلس العسكري الانتقالي ولا الوسيط الأثيوبي أو الوسيط الأفريقي تجاوزها، على الرغم من ادعاء وجود قوى تستحق المشاركة والتفاوض.
وكان بروز قيادات شابة خاضت غمار الثورة والتفاوض، وأذهلت العالم بثابتها، ومنطقها إجابة شافية لمن ظلوا يتساءلون عن البديل، كأن حواء السودان عقرت.
نبارك للشعب السوداني وقد تحققت الخطوة الأولى نحو حكم
مدني يلبي طموحاته، ويقوم فيه العسكر بدورهم في حماية بلادنا من أي مهدد خارجي.
إن التحدي الذي سيواجهه مجلس الوزراء هو تحقيق السلام،
والقضاء على أسباب التذمر والتمرد من أي جهة، ثم تلبية الحاجات الملحة للشعب من
ضروريات الحياة، وإقامة العدل، ومحاكمة كل من أخطأ في حق الشعب، وأسال الدم،
واغتصب حقاً من حقوق الناس، وفي المقابل يجب أن ندرك دقة المرحلة، وضرورة توجيه
الطاقات للإنتاج، وعدم إثارة المطالب الفئوية في هذه المرحلة، حتى لا نقوض
ديمقراطيتنا في مهدها، كما على الأحزاب أن تستغل الفترة الانتقالية في بناء نفسها،
بدلاً من الكيد لبعضها بعضاً.
إن الديمقراطية غرس يحتاج إلى أن نرعاه جميعاً، لننعم
بثماره نحن وأجيالنا المقبلة، التي تستحق حياة أفضل من التي عشناها في ظل حكومات
عسكرية أذاقتنا المرارات في وطننا، وشردتنا في المنافي، وجعلتنا في دائرة الاتهام
في مطارات العالم.
إن الشعب السوداني يقدم اليوم درساً للعالم عن كيف تكون الثورة؟ وكيف يكون أخلاق الثوار؟ وكيف يكون النبل والثورة في ذروتها؟ وكيف تكون السلمية ودم شبابه البض يسيل ممهداً طريق الخلاص والحرية؟ ما أعظم أن تكون سودانياً.