* تصوروا أن قطاع طرق مسلحين أوقفوا سيارتكم، فتسلمونهم أنتم الأموال التي بحوزتكم والمسدس والسيارة. وهذا ما يتيح لكم إنقاذ أنفسكم. هذه مساومة ولا شك. (اعطيك الدراهم والسلاح والسيارة، لتعطيني أنت الذهاب بأمان وسلامة)، ولكن من العسير أن تجد شخصاً سليم العقل يعتبر هذه المساومة (غير جائزة مبدئياً)، أو يعتبر مَن أقدم عليها شريكاً لقطاع الطرق (حتى وإن استطاع قطاع الطرق بعد أخذهم السيارة والمسدس أن يستخدموهما لأعمال لصوصية جديدة).
* هذه العبارة ليست لي، وإنما لقائد الثورة الروسية، ومؤسس الحزب الشيوعي والدولة السوفيتية (فلاديمير لينين)، جاءت في أحد أشهر كتبه وهو (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية) الذى صدر في ابريل عام 1920، يتطرق فيه للمراحل التي مرت بها الثورة الروسية، والتكتيكات المختلفة التي اتبعتها للوصول الى أهدافها، وينتقد بشدة المواقف المتطرفة لـ (اليساريين الشيوعيين) الذين كانوا يسعون للقفز فوق المراحل، ويرفضون بشكل مطلق الحلول الوسطى أو المواقف الوسيطة، التي يعتبرونها (خيانة) للثورة !!
* يقول لينين في نهاية العبارة: “إن مساومتنا مع قطاع الطرق الإمبرياليين الألمان كانت مساومة من هذا القبيل.” وهو يقصد بذلك (صلح بريست) أو (معاهدة بريست) بين الدولة السوفيتية وألمانيا في مارس عام 1918 والتى خرج على إثرها الروس من الحرب العالمية الاولى، واعتبرها البعض خيانة للمبادئ الثورية، وفى ذلك يقول لينين: ” لقد تراءى لهم أن صلح بريست هو مساومة مع الإمبرياليين غير جائزة مبدئياً ومضرة بحزب البروليتاريا الثورية، ولقد كانت في الواقع مساومة مع الإمبرياليين، لكنها كانت مساومة لا مناص منها في ذلك الظرف بالذات” !!
* ويضيف: “أليس من المضحك للغاية أن يشن المرء حرباً من أجل إسقاط البرجوازية العالمية، حرباً هي أصعب وأطول وأكثر تعقيداً بمئة مرة من أشد الحروب العادية التي تنشب بين الدول، ثم يمتنع سلفاً عن المناورات وعن الاستفادة من تناقض المصالح (ولو مؤقتاً) بين الأعداء، وعن التوفيق والمساومات مع الحلفاء المحتملين حتى ولو كانوا مؤقتين، متذبذبين، متأرجحين، فرضيين”؟ .. ويُشبّه ذلك بالامتناع سلفاً عن السير المتعرج أحيانا، أو النكوص على الاعقاب أحيانا أخرى، أو الانحراف عن الاتجاه الذي سبق اختياره واختبار اتجاهات مختلفة، عند ارتقاء جبل شاهق ظل عصيا على الصعود حتى تلك اللحظة.
* تناول لينين في الكتاب العديد من التجارب والمواقف والأمثلة، وطرح الكثير من الأسئلة وأجاب عليها .. هنالك مثلا قضية المشاركة في البرلمانات البرجوازية والنقابات الرجعية خلال سنوات ما قبل انتصار الثورة، والتي تمايزت فيها الآراء وتغيرت فيها المواقف من فترة لأخرى ما بين مقاطعة الانتخابات والمشاركة فيها، والخلافات والانشقاقات التي وقعت في صفوف الشيوعيين بسبب اختلاف الآراء بين الداعين للمشاركة والمعارضين لها، والرافضين للتحالف مع (الرجعيين)، والمؤيدين له باعتباره إجراءً وقتيا توجبه ظروف معينة ..إلخ.
* يتساءل لينين “هل من الصحيح القول: لا مساومة أبداً؟، ويجيب مستعينا بما كتبه المفكر الألماني فردريك انجلز عن مجموعة من الشيوعيين الألمان (البلانكيون) كانوا يقولون في بياناتهم، نحن شيوعيون لأننا نريد أن نتوصل الى هدفنا بدون أن نتوقف في المحطات الانتقالية، ودون أن نلجأ الى المساومة التي لا تؤدى إلا الى تأخير يوم الانتصار وإطالة عهد العبودية، ويرد عليهم انجلز، “إن الشيوعيين الألمان هم شيوعيون، لأنهم من خلال جميع المحطات الانتقالية والمساومات التي لم يصنعوها هم، بل صنعها مجرى التطور التاريخي، يرون الهدف النهائي بوضوح ويقتفونه باستمرار، أمّا البلانكيون فيريدون القفز فوق المحطات الانتقالية والمساومات، ويرون أنه إذا بدأت الثورة، يجب ان تتحقق الشيوعية في اليوم الثاني مباشرة، وإلا فلن يكونوا شيوعيين” !!
* لا اريد ان اطيل، ولا أقصد بالحديث عن كتاب (لينين) الذى يحفظه الشيوعيون في كل مكان عن ظهر قلب، التقليل من قرار الحزب الشيوعي السوداني بالانسحاب من المفاوضات لأنها في رأيهم تسعى لتحقيق ارادة العسكر وخيانة تطلعات الجماهير .. ولكن ألم يجدوا في التاريخ النضالي الشيوعي الطويل وفى إرثه المدون، ما يدلهم على الطريق الصحيح ؟!
* يقول لينين: ” كان تشيرنيشيفسكي، الاشتراكي الروسي العظيم قبل عهد ماركس يردد دائما: (النشاط السياسي ليس كرصيف شارع نيفسكي، ذلك الرصيف النظيف العريض المُعبَّد الممتد على طول الشارع الرئيسي في بطرسبورغ)!!