لأنه الختام، فإننا سنعبر اليوم من بوابات كثيرة، أغلبها لم يطرقها سائل.
لسنوات عديدة تناقلنا كنية “قوش” حتي
حسبناها اسماً عائلياً لابن الحاجة عائشة بت عثمان محمد الماحي والحاج عبدالله
محمد محمد صالح. من أين له، وكيف لهذا الاسم الهندوسي الرشيق النطق، قوش، أن يعبث
بأوراقه الثبوتية؟
لسنوات طويلة جلبت لنا ثقافتنا الشفاهية ورواة الأحداث
قصصاً عن هذا اللقب صبت كلها بتفخيم نبوغه العلمي في مادة الرياضيات.
لم تسلم في زمان التزوير للألقاب العلمية والسير
الذاتية حتي صحيفة رصينة ومدققة مثل (السودان تربيون) من السقوط ضحية لهذه الكذبة
الجماهيرية! فقد غابت عنها حصافتها الاستقصائية المشهودة، وهي تعرض سيرة الرجل،
فخلطت نبوغه في الرياضيات بدعاوى حول منشأ التسمية، مكانها وسببها.
قالت الصحيفة
(وفي مدرسة بورتسودان الثانوية تمت تسميته بقوش انتساباً لأستاذه في الرياضيات
نظراً لجدارته وموهبته في تلك المادة).
راجع رابط البروفايل
http://www.sudaneseonline.com/+-Salah-Gosh,493-
هذا التميز الكذوب روّج له قوش نفسه في لقاءاته
الصحفية، على قلتها وندرتها. فها هو يبلغ صحيفة الصحافة في 7 نوفمبر 2011م ما نصه
(اللي بدرسو رياضيات اديشينال كانت مجموعة محدودة، وده فيه تميز، وأنا برضو بحب
التميز)، مثل هذا التميز الذي يدعيه، ويروّج له، هو الذي جعلنا نتقصد ماضيه الأكاديمي !
نقرر اليوم، بعد طواف بأركان الدنيا بحثاً عمن زاملوه،
أن الطالب صلاح عبدالله محمد صالح لم يكن سوي طالباً جامعياً بملكات متواضعة جداً
منذ دخوله لجامعة الخرطوم في 1976م.
دليلنا على تواضع مستواه الاكاديمي هو رسوبه في سنته
الثالثة ( 1979-1980م)، وعندما رسب أيضا في الملاحق، أضطر لإعادة السنة الثالثة،
فتجاوزته دفعته! فبدلاً من أن يتخرج في 1981م، لبس روب التخرج في العام التالي،
1982م! أما لقب “قوش” فقد فرضه عليه أقرانه في الدفعة تهكماً واستفزازاً،
وليس بسبب من تميزه!
درجت كلية الهندسة بجامعة الخرطوم على تدريس مادة
الرياضيات الهندسية في محاضرة مشتركة للفصول من السنة الأولى إلى السنة الثالثة.
انتظم طلاب التخصصات الهندسية الخمسة(المساحة، والكهرباء، والمدنية، والزراعية،
والميكانيكا) بشكل روتيني بمدرج كلية الهندسة الكبير “المطل علي شارع النيل”.
المحاضران المشرفان على تدريس الرياضيات الهندسية، هما:
الدكتوران البريطاني ساندرز والهندي قوش.
كان حظ دفعة طلاب السنة الثالثة هندسة في عام 1979م مع
المحاضر الهندي. ذات يوم حضر طالب الصف الثالث هندسة مدنية، صلاح عبدالله، للمدرج
المذكور لحضور المحاضرة المشتركة.
قرر الطالب غير المكترث بالمحاضرة استبدالها بالاستماع
ومتابعة اذاعة “هنا أمدرمان”!استلف راديو الترانزسستور الذي يمتلكه ابن
دفعته، مدحت عبدالمجيد، المتفوق أبدا في قسم الهندسة الكهربائية. انهمك صلاح في
الاستماع وانصرف عن المحاضرة وموضوعها، وفجأة، سقطت سماعة الأذن، ولعلع الراديو في
المدرج! توقف المحاضر وانكشف أمر الطالب صلاح عبدالله، فانفتحت عليه أبواب الجحيم
تقريعاً وتوبيخاً من البروفيسور الهندي الغاضب. انتهت الحصة وخرج الطالب المنكسر
تلاحقه قهقهات الشامتين، فعوضوه عن موضوع المحاضرة لقباً هندوسياً بمذاق فلفل
الكيري اللاذع! بعد التخرج، غسل صلاح قوش اللقب وارتداه بفخر.
كما شهدنا، فقد أعاد كتابة التأريخ وملابسات تنزّل
اللقب عليه ! فأصبح الخمول الأكاديمي نبوغاً، واسم الهندي تيمناً، أما التوبيخ
العلني فأصبحا نسياً منسياً، ومعه دفنت رواية الفضيحة والزجر المشهود.
فمن غسل الماضي، وإلى غسل الأموال، توفرنا اليوم علي
مفخرة صناعية جديدة بعد أن توقفت مصانعنا ومحالجنا وخطوطنا الجوية والبحرية
والحديدية، سمّها الصناعة الأكثر ربحية في السودان: غسيل الماضي السيء!
بعد 34 عاماً من الواقعة طفقنا نبحث عن صاحب الراديو حتى وصلنا إليه في القارة الأسترالية، بعضاً من حالنا البئيس، وقد تفرق أهل المعرفة بكل واد. فصاحب الراديو ليس سوي برنجي دفعته طوال سنواته في قسم الكهرباء بجامعة الخرطوم، وهو اليوم دكتور الهندسة الكهربائية، مدحت عبدالمجيد عبدالمنعم. الرجل ليس استثناءً في من أنزلهم حال الوطن منازل هجرة لم يسلم منها خط كنتور واحد في الكرة الارضية. وجدته في استراليا عضوا منتدبا لشركته المسماة:
Australia-MENA
Links Pty. Ltd.
راسلت الدكتور مدحت عارضاً ما تجمع لديّ من أقرانه عن
واقعة الراديو، طالباً منه التعليق. لم يخب ظني ونهض معتصراً الذاكرة. قال في رده
المكتوب، وأنا أورده هنا بحذفاره النصي حيث لا علاقة للرجل بأي جزئية أخرى في هذا
التقرير بخلاف واقعة الراديو. قال: “نعم، القصة عن الراديو صحيحة تماماً، ومن
هنا أتى اللقب. صحيح انني كنت أول تلك الدفعة، ولكن تخصصي كان الهندسة الكهربائية،
وليس الهندسة الميكانيكية. أود ان أضيف أن الراديو خاصتي تمت مصادرته بواسطة
المحاضر الهندي الدكتور قوش كعقاب لاستخدامه في أثناء المحاضرة. أصر المحاضر علي
حضور صاحب الراديو لمكتبه لاستلامه، ظناً منه أن صاحبه هو صلاح عبدالله. طلبت من
صلاح تولي ذلك الأمر والذهاب للمحاضر للإفراج عن جهازي، إلا أنني لازلت انتظر إرجاع
جهاز راديو الترانزستور الأزرق الجميل الخاص بي!). تكرم الدكتور مدحت وأرسل لي
مشكوراً صور تشابه الراديو الذي فقده للأبد!
وعلى محور آخر، سألنا رصفاء قوش عن شخصيته في تلك
الأيام. أجمع 6 منهم على أنه كان أكثر من طالب عادي جداً، بلا أي شيء فاقع يميزه.
قالوا إنه لم يكن “بارزاً” في إسلاميته وأمامه قامات سامقة: أمين بناني
أو المهندس داود يحيى محمد “بولاد”.
لم يمارس
نشاطاً رياضياً أو ترفيهيا يقربه من الضوء. قالوا، حتى مخالطاته لم تتجاوز زملائه
بالكلية من أبناء الشرق، وكسلا بالتحديد. يذكرونه كطالب مهمل لواجباته في كلية
حفلت بالنوابغ، كان متأخراً دوماً في تسليم الواجبات المستحقة. يقارنوه بمن غادر
الكلية بسبب من أحداث شعبان في أوائل السبعينيات وعاد إليها بعد سنوات، ويقصدون
بولاد، فيقرون أن سنوات انقطاعهم لم تخدش مقدراتهم العلمية.
كان صلاح قوش لصيقا بأحد أبناء كسلا هو المهندس كمال
صديق، الذي ينحدر من أسرة ملتزمة بتيار الجبهة الإسلامية مما يفسر اختيار البشير
لشقيقه طبيباً خاصاً.
في كثير من الأحيان استفاد قوش من جدية كمال صديق الأكاديمية،
بل اعتمد عليه في الكثير من المطبات العلمية والواجبات، وما أكثرها! يلاحظ أن هذه
الدفعة من المهندسين الإسلاميين ارتبط جميعهم بجهاز أمن الانقاذ! كثيرون منهم غدوا
أسماءً ساطعة في تكبيل حرياتنا والازديان بالمال المسروق! مهندسون فارقوا التخصص إلى
تقنيات “هندسة التعذيب” ومن زنازين التعذيب تلألأت سيرتهم في اللصوصية
والثراء الحرام، ما هو سرهم يا ترى؟ كيف هبطت عليهم ليلة القدر وساقتهم من الجامعة
بمفكاتهم ليسطوا علي خزائن المال بهويات جهاز الأمن الإخواني؟ اسمعوا قوش يتحدث في
26 يوليو 2012م، وسنأتي للمزيد لاحقاً.
سألوه عن عمله بعد التخرج، قال (ما اشتغلت كنت متفرغ
سياسياً)، ويستمر الحوار، فيقول: إن رتبة تعيينه التي بدأ بها في الجهاز كانت “رائد”.
سألوه إن كان دخل الجهاز بواسطة، أجاب: (عمري ما دخلت حته بواسطة)، ثم تراشق (ليه
دخلت الجهاز؟)، قال: الالتزام التنظيمي، ( بمعنى؟؟) فأكمل (أنا كنت في الجامعة
مسؤول عن الأمن والمعلومات وعملت في الأجهزة الخاصة للحزب).
إلى جانب عبدالباسط حمزه وقف أبوعبيدة “دج”.
أما موسى المتخصص “هندسة/ مساحة”، فقد رافق قوش المتخصص “هندسة/ مدنية
” إلى جهاز الأمن.
يتوارد أن قوش خشي منه فأبعده واستبدله بمحمد عطا
“هندسة/ميكانيكا”! وهناك طارق فته “هندسة/ ميكانيكا” ابن
بورتسودان الأقرب سلوكاً لليبراليين، إلا أنه نال حظوته في الأمن أيضاً!، وعلى
مقربة منه كان آخر نسخة مطوّرة من الطيب سيخة في الفتونة، فأسموه لقباً ب(راجل
البركس).
أما الشقيقان السعيد ومحمد عثمان محجوب فانخرطا في
العمل الإسلامي المنظم، وتقربا من قوش برابط شلة أولاد كسلا، ونالهم نصيب وافر من
هذه القربى! كانت أيضاً شركتا دانفوديو والنصر الأكثر كرماً في استيعاب هؤلاء
النفر، فهبطوا عليهما من الجامعة زرافات ووحداناً كما في حالة كمال صديق وقوش ومعظم
الآخرين.
سألنا أبناء دفعته عن نشاطات البصبصة التي مارسها صلاح
قوش بالجامعة، أشار اثنان منهم لواقعة ورقة غريبة تسربت من داخلية
“ترهاقا” حيث أقام طلاب السنة النهائية.
غرابة تلك الورقة أنها حوت معلومات مفصلة عن الميول
السياسية لكل الدفعة إلا أن الكل عجز عن ربطها بمن أعدها، فبقت سراً مكشوفاً بلا
حاضن معروف !