عندما وقع «الاتفاق السياسي» بين المجلس العسكري و«قوى الحرية والتغيير» في السودان في السابع عشر من يوليو (تموز) الماضي، كنت مع كثيرين، من أشد الناقدين له، للثغرات العديدة والخطيرة التي برزت في ثناياه، مما أثار القلق من تداعياته على الثورة وأهدافها. كان الهدف من الحملة الواسعة لإبراز نقائص ذلك الاتفاق، العمل على تلافيها في «الوثيقة الدستورية» التي ستحدد هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية وصلاحياتها، وكان التفاوض عليها سيبدأ كمرحلة تالية ونهائية قبل نقل السلطة من المجلس العسكري إلى الأجهزة الجديدة.
الآن وقد صدرت الوثيقة الدستورية موقّعة بالأحرف الأولى يوم الأحد الماضي، ويُنتظر التوقيع النهائي عليها في احتفال كبير بحضور أطراف أفريقية ودولية وعربية في السابع عشر من الشهر الجاري، يمكن القول إن الضغط الشعبي حقق غرضه، إذ عالج المفاوضون الكثير من مكامن الخلل في «الاتفاق السياسي». هذا لا يعني أن الوثيقة الدستورية كانت خالية من بعض العيوب، أو أنها لم تواجَه نقداً. فالوثيقة مثلاً خلت من أي نص يوضح الجهة التي يمكن أن تُخضع مجلس السيادة للمساءلة والمراقبة أسوةً بمجلس الوزراء، علماً بأن لديه الكثير من الصلاحيات بالغة الأهمية. كذلك أغفلت الوثيقة الإشارة إلى الإدانة في جرائم القتل والحرب والتعذيب ضمن الأسباب المانعة للعضوية في مجالس الوزراء والسيادة والتشريعي، أو المؤدية إلى فقدان العضوية فيها، مع أنها أدرجت جرائم الشرف والأمانة والذمة المالية.
الوثيقة أيضاً منحت القائد العام للقوات المسلحة، وهو منصب غير موجود منذ فترة في الجيش، صلاحيات مثل ترشيح البديل العسكري في مجلس السيادة في حالة خلوّ منصب أحد الأعضاء العسكريين الخمسة في المجلس. ولم يتم التطرق إلى آلية استحداث أو إعادة المنصب، ومَن يشرف عليها ويعتمدها، سواء كان المجلس العسكري قبل حلّه، أو المكون العسكري في مجلس السيادة بعد تشكيله. أضف إلى ذلك أن الوثيقة سحبت مسألة ترشيح وزيري الدفاع والداخلية في الحكومة المقبلة من رئيس الوزراء وأعطتها حصراً للمكون العسكري في مجلس السيادة، من دون الإشارة حتى إلى أن اختيارهما سيحدث فيه تشاور مع رئيس الوزراء. الإشكالية هنا، إلى سلطة مَن سيخضع هذان الوزيران، هل لرئيس الوزراء أم لأعضاء مجلس السيادة من العسكريين الذين تولوا اختيارهما وترشيحهما؟ ربما كان من الأفضل لو تم النص على أن ترشيحهما يتم بالتشاور مع رئيس الوزراء الذي سيرأسهما بحكم منصبه، ولسلطته يجب أن يخضعا بحكم عملهما في الوزارة.
الوثيقة الدستورية نصت في البند 44 (3) على أنه لا يجوز نزع الجنسية عمن اكتسبها بالتجنس إلا بقانون، من دون تحديد الجهة التي تُصدر القرار أو القانون المطلوب. عدم وضوح الآلية قد يعرقل معالجة موضوع الجنسيات التي مُنحت بأعداد كبيرة بأساليب الفساد، وسهّلت لنافذين الإشراف على شبكات باعت أو وزعت الجنسية والجوازات لمن لم يكونوا يستحقونها.
هذه مجرد أمثلة من الانتقادات، فهناك غيرها بالتأكيد، لكنها في تقديري تبقى محدودة بالمقارنة مع «الاتفاق السياسي» الذي جاء مليئاً بالعيوب الخطيرة. فالوثيقة الدستورية في مجملها تعد وثيقة جيدة فيها الكثير جداً من الإيجابيات، التي تجعلنا نتغاضى عن المآخذ المحدودة التي يمكن معالجتها لاحقاً لو صَفَت النيات وخلقت أرضية للتعاون. من هذه الإيجابيات العديدة أن الوثيقة تجاوزت الجدل الواسع حول موضوع الحصانة لشاغلي المناصب الدستورية، وما إذا كانت الحصانة مطلقة أو إجرائية، وحسمتا بالنص على أنها إجرائية، بل ومنحت المجلس التشريعي المرتقب سلطة رفعها بالأغلبية البسيطة في التصويت. وإلى جانب ذلك نصّت على أن «جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم القتل خارج نطاق القضاء، وانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وجرائم الفساد المالي، وجميع الجرائم التي تنطوي على إساءة لاستخدام السلطة التي ارتُكبت منذ الثلاثين من يونيو (حزيران) 1989»، لا تسقط بالتقادم. فهذه الفقرة مع موضوع تقييد الحصانة، هدّأت غضب السودانيين وطمأنتهم إلى أن كل من ارتكب جرائم في الفترة الماضية إبان الثورة أو طوال عهد حكم البشير والإسلامويين، لا يُفترض أن يفلت من العدالة في الفترة الانتقالية أو بعدها. والوثيقة نصت أيضاً على أن منسوبي القوات النظامية يخضعون للمحاكم المدنية لا العسكرية في حال ارتكابهم جرائم ضد المدنيين، وذلك حتى لا يحدث جدل أو اتهامات بالتستر أو الانحياز إذا أخضعوا في مثل هذه القضايا لمحاكم عسكرية.
في هذا الصدد أيضاً أكدت الوثيقة تشكيل لجنة تحقيق مستقلة بدعم أفريقي عند الاقتضاء، وخلال شهر من اعتماد رئيس الوزراء للفترة الانتقالية، للنظر في جريمة فض الاعتصام وفي كل الجرائم والانتهاكات الأخرى خلال فترة الثورة. كما تقرر أن تكون لهذه اللجنة صلاحيات واسعة وضمانات لاستقلاليتها لكي تنظر في الأحداث التي تركت جرحاً غائراً في نفوس السودانيين، وبقي الشارع مستنفَراً في إصراره على محاسبة كل من شاركوا فيها.
من الإيجابيات الأخرى المهمة للوثيقة الدستورية أنها أنهت الجدل حول موضوع «الثلث المعطل» للقرارات في مجلس السيادة الذي يُصدر قراراته بالتوافق أو بأغلبية ثلثي أعضائه إذا لم يحدث التوافق. فلكي لا يصبح العسكريون مثلاً كتلة يمكنها وقف القرارات بالثلث المعطل، نصّت الوثيقة الدستورية التي تعدّ «القانون الأعلى بالبلاد، وتسود أحكامها على جميع القوانين»، على أنه في حال فشل أو امتناع مجلس السيادة عن التوقيع لمدة 15 يوماً على القرارات المحالة إليه للاعتماد، أو على القوانين المجازة من المجلس التشريعي، فإنها تصبح سارية ونافذة حكماً. وحتى إذا أبدى مجلس السيادة ملاحظات خلال هذه الفترة على القوانين أو القرارات المحالة إليه للاعتماد، فإنها ليست ملزمة بل يجري التداول بشأنها في الجهة التي أصدرتها ويمكن أن يؤخذ بها أو ببعضها أو تُرفض، وفي هذه الحالة تصبح هذه القوانين مثلاً ملزمة إذا صوّت عليها المجلس التشريعي مرة أخرى لا يحتاج بعدها إلى موافقة من المجلس السيادي.
الوثيقة الدستورية، إذا تغاضينا عن بعض السلبيات القليلة، وضعت أساساً «نظرياً»، أو فلنقلْ قانونياً، جيداً للفترة المقبلة. يبقى المطلوب الجانب العملي وهو الأهم، لضمان تشكيل هياكل السلطة بسرعة وسلاسة، ولضمان العبور بالفترة الانتقالية التي من المقرر أن تستمر 39 شهراً، إلى بر الأمان في مواجهة الكثير من التحديات والمهام الصعبة التي تنتظرها. فالوثائق وحدها لن تضمن النجاح، إذا لم تتوفر البيئة المؤاتية للعمل الجاد، وترسي الأرضية المناسبة للتعاون بين أجهزة السلطة الانتقالية، وبين أطرافها داخل هذه الأجهزة وخارجها. فهناك من يتربصون في انتظار الفرصة للانقضاض على السلطة في المرحلة الانتقالية، ولا يريدون للسودان أن يصل إلى بر الانتخابات الديمقراطية، وفي مقدمة هؤلاء بقايا نظام البشير الساقط من الإسلامويين والمنتفعين، وبعض الطامحين والطامعين الآخرين الذين لا أمل لهم في الوصول إلى الحكم بالانتخابات.
بدايةً لا بد أن تتمسك مكونات «قوى الحرية والتغيير» بحكومة كفاءات من المستقلين للمرحلة الانتقالية، لكي تتفرغ هذه المكونات للحراسة الضرورية للثورة، ولكي تعمل الأحزاب على إعادة بناء نفسها والتواصل مع القواعد، استعداداً للانتخابات ولتأسيس ديمقراطية تعمّر هذه المرة. هذا هو ما تستحقه هذه الثورة التي ضحّى الكثيرون من أجلها، وهو ديْن واجب السداد من أجل الأجيال المقبلة.