مناصب السلطة الجديدة للثورة مجرد تكليف، وليس محض تشريف. ولئن رفضنا “الحصانات” فلا بد أن نرفض “الامتيازات” في وقت يتضور بعض الناس جوعا مع تزايد نسبة الفقر، والفقراء. ولا ننسى أن إنتاجنا معطوب، واقتصادنا في غرفة الإنعاش، وبحاجة إلى إسعاف عاجل. بل ما يزال السواد الأعظم إلى يوم الناس هذا يدفع فاتورة باهظة لسياسة عبد الرحيم حمدي التي حررت الاقتصاد حتى غاص دعم التعليم، والصحة، وتحول عتاد إسلاميي الدولة لابتذال الرأسمالية الطفيلية.
المحظوظون من الأهل اعتمدوا على دعم المغتربين، والمهاجرين، من أبنائهم، وبناتهم. ولكن الغالبية ظلت تعاني من تدبير تعليم فلذات كبدها، والحصول على الدواء، والعيش الكريم. ولو حصرنا انعكاسات تحرير الاقتصاد على تماسك الأسر، وكرامة الأفراد، لوجدنا أن الإنقاذيين قد ارتكبوا إثماً عظيما. لم يحتسبوا إلى أن السوق لا يعرف الرحمة. فلولا الفقراء لما كان هناك أغنياء، والعكس صحيح. إذن فغنى السوق الحر لا بد أن يراكم في عدد المعسورين لا محالة. ولكن الإسلاميين كانوا آخر من يفكرون في الآخر. فقد كان لديهم مال مجنب لشؤون العضوية ليقيلوا به عثرة الكادر.
أما المال المستقطع من الميزانية الذي كانوا قد جعلوه مصارف للفقراء لم يكن ليصل إليهم، فوقا عن ذلك كان المتحصل قسريا من الجبايات هو الذي يخلق رغد شاغلي المناصب الدستورية في ظل غياب الإنتاج، فتأمل يا حبيب.
السودان القديم لا يتمثل فقط في الأشخاص، أو الفئة التي تتمنطق بعبارات من نهج الحداثة، والتعبير عن التهميش، وتمجيد الفصل في السلطات. وإنما في (١) تطبيقات المفهوم المستنير، و(٢) السياسات الرشيدة، و(٣)السلوك الرسالي المعايش لأفراد الحكومة المنتظر تشكيلها – هذا إذا سارت الأمور على نحو ما هو متفق عليه. ومتى تماشى ذلك الثالوث الأساسي للحكم الرشيد مع تضحيات الثوار نكون قد دخلنا مرحلة السودان الجديد. أما إذا كان سعي النخب البديلة للإسلاميين يتبوصل في ذات الاتجاه لحصد الامتيازات فإنها ستكون أسوأ منهم. وعندئذ يتطلب الواقع أن تستمر التظاهرات السلمية للضغط على النخب المتوزرة لتذكيرها بالانتباه لخطل الاستجابة للمحفزات الوظيفية التي تجلب سكرة السلطة.
وإذا كانت النخب التي ستتوزر قريبا تمتلك من الأخلاق لمراعاة حاجة البلاد لكل جنيه، وازدياد نسبة الفقر، لاعتمدت على المرتب فقط شأنها شأن معظم الذين ثاروا حتى يجدوا رجال الدولة، ونساءها، المؤثرين على أنفسهم.
أما إذا كانت نخبنا الوزارية المختارة بعناية – محاصصةً أم بغيرها – لتحقيق الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، هي من النوع الذي يسيل لعابها لامتيازات الوظيفة فإن الثورة تكون بعيدة عن اكتمال أركانها بما يضمن أنها ذات معانٍ ثقافية، واجتماعية، إن لم نقل رسالية محضة.
لقد استبشر معظم الناس بأن حمدوك آت ٍ لرئاسة الوزراء مع طاقمه لتحقيق ما لم يستطعه الأوائل. وما يعني المرء – حقا – ليس الروشتات الاقتصادية التي يحققها وزير المالية الجديد لتحقيق ذلك الإصلاح الاقتصادي، برغم أهمية ذلك. وإنما الذي يعنينا في المقام الأول هو كيف تعمل وزارة حمدوك على تقليل الإنفاق الحكومي الباذخ، والتنازل عن الامتيازات الدستورية لصالح الفقراء من جهة، ولصالح استنان قدوة في القيادة، من الجهة الأخرى.
للأسف، ستجدين أن نماذج القيادات النموذجية للنخب في بلادنا شحيحة، سواء في تقديم التضحيات، أو التواضع في الحياة. فمعظم رموزنا القادة أتوا من خانة الفقر، وتحولوا هم، أو ابنائهم، أو أحفادهم، إلى خانة الغنى، وبالتالي تلحظهم يسكنون في أحياء الطبقات الثرية. واذا كان الإخوان يتاجرون بالدين فكثير من سياسيينا يتاجرون بالجهل. وبخلاف الأستاذ محمود محمد طه لم نجد زعيما حزبيا من الجيل القديم عاش على الكفاف تقريبا، ضاربا المثل في الشفافية السياسية، والدينية، ولم يبرح مجاورة الفقراء.
صحيح أن د. عبدالله حمدوك قضى الثلاثين عاما الأخيرة موظفا دوليا بامتيازات معهودة لمن يعملون في هذا المجال. وربما نجد في وزارته القادمة مماثلين له ممن لم يعانوا كما عانى السواد الأعظم الذي انتفض ضد الضيق الاقتصادي. ولكن نعتقد أن رئيس الوزراء الجديد، ومعه الوزراء، سيدركون أهمية تقليل الإنفاق الحكومي على المستويات كافة، بما فيها ميزانية مجلس السيادة، والجهاز التشريعي، والسفر الخرافي، وكذلك أوضاع المسؤولين الحكوميين في العاصمة، والولايات. ولا بد أنهم وقفوا على سيرة الآلاف من الدستوريين المركزيين، والإقليميين، لعهد الإنقاذ. فلو سن حمدوك، وركبه، خصلة الإيثار على انفسهم لأيقنا تماما أن ثقافة المعتصمين الذين قُضي نحب بعضهم سار عليها الوزراء الجدد بأنهم قدموا مصلحة الشعب قبل مصالحهم.
ثورة ديسمبر التي تمثل قمة الثورات المضطردة ضد نظام الانقاذ كانت تهدف للبحث عن قادة نموذجيين في الحكم يؤثرون على أنفسهم ولو بهم خصاصة. ولعل الفرصة قد حانت ليدرك الثوار أي قادة هم أولئك الذين أتت بهم ثورة السودان التي خلقت ثقافة الإيثار في النضال كمقدمة يختبرون بها القادة البديلين لقادة الإنقاذ الطفيليين بأمر الرأسمالية القحة لسياسة التحرير الاقتصادي. تفصلنا أيام من معرفة وزراء حمدوك، وعندما نقف على سياساتهم التقشفية سنحكم إن كنا قد اشترينا الترماي عوضا عن الإكسبرس. والأهم من كل هذا سننتظر لنرى إن كنا قد غادرنا محطة الأفندية الغردونية.